أخبار الأبرشية

خطاب المطران يوحنا جنبرت لمناسبة إحتفالية اليوبيل الفضي لسيامته الأسقفية

ألقاه في سهرة العشاء التكريمي لمناسبة اليوبيل

أبتِ صاحب الغبطة الكلي الطوبى، البطريرك يوسف العبسي أطال الله عمره لسنين عديدة. أيها السادة الإخوة أساقفة حلب الأجلاء، السيد أحمد منصور و السادة الرسميين الأكارم، أيها الآباء الأجلاّء والإخوة الأعزّاء.

لستُ أدري ماذا أقول في هذا الحفل الجميل الذي أصرَّ الكهنة الأحبّاء والإخوة الأعزّاء الناشطون في الأبرشية على إقامته رغما عني، احتفاءً بالذكرى الخامسة والعشرين لإرتقائي السدة الأسقفية وتسلمي زمام أمور أبرشية حلب العزيزة. هل أترك العنان لشجيتي لأعبر بإسهاب عما يجيش في قلبي من عواطف محبة وامتنان لهم ولكل الأصدقاء الأكارم الحاضرين وعلى رأسهم غبطة أبينا البطريرك، الذي أبى إلاّ أن يأتي خصيصا إلى حلب النائية، متكبدا عناء السفر، ليكرّمني بتواجده ويشرف الأبرشية برعايته لهذا الاحتفال الذي ازدان بحضوره الكريم وتألق ! فشكرا وألف شكر يا سيدي العزيز لك ولصحبك الكريم ولكل الضيوف الأفاضل الذين لبوا دعوة منظمي هذا اللقاء الأخوي الجميل.

أمّا بعد ، فقد بدر إلى خاطري أن أستعيد في هذه اللحظة من مسار حياتي، ذكرى وصولي لخمسٍ وعشرين سنة خلت، إلى هذه المدينة العامرة، فأكرر ماقلته في حينه، حيث توجهت في خطابي الأول إلى أبناء الرعية المحبوبين بالتحية، معبرا عن مشاعري الدفينة فقلت: ” تحيتي إلى حلب الحبيبة أم التاريخ والحضارة، تحيتي إلى حلب حاضنة المسيحيين منذ مولد الكنيسة ونشأتها. تحيتي إليها مدينة آبائي ، تلك التي في كل ذرة من أديمها قصيدة، وفي كل حفنة من ترابها ملحمة تروي حياة جماعات أسلافنا والأفراد البارعين بينهم، ممن عايشوها وخدموها ومن الذين شيّدوا صروحها وتفانوا في الحفاظ عليها…تحيتي إلى حلب مدينة أصدقائي وأحبائي وأخوتي في هذا الوطن العزيز… تطلعاتي ومقاصدي تستمد من ماضينا المناقب والعنفوان، ومن حاضرنا الوسيلة والعرفان، ومن إشعاعات فجر الألف الثالث النور الذي يوجه خطانا في عملية بناء مجتمع حديث، قادر على مواكبة عصر، لامكان فيه لا للخنوع ولا للجهل والتعصب ولا للخذلان … ومن هنا أرى انَّ أول ما يتوجب عليّ عمله في حلب، هو تحريك طاقات النعمة ومواطن الخير الكامنة في قلوب أبنائها الميامين”.العواطف هذه والتي كانت تجيش في قلبي عند دخولي هذه المدينة العزيزة الصامدة، هي عينها التي أشعر بها في هذه الساعة وهي عينها التي شعرت بها يوما بعد يوم طيلة السنوات التي قضيتها حصينا وآمنا في رحاب أسوار محبة أبنائها الأكارم وعزة مروءاتهم وسخاء أفضالهم، مما كان يشدني، أكثر فأكثر، إلى التعلق بهذه المدينة التي أحببت وهي العريقة في ماضيها والزاهرة في حاضرها والواعدة في مستقبلها، وهذا أيضا ما كان يدفعني إلى الاهتمام بكل حلبي مقيم وبكل مغترب في قلبه حنين. وفي الوقت عينه، هو الأمر الذي سهَّل عليَّ العمل فيها والبذل والعطاء من أجل خير قاطنيها المحبوبين ورفعتهم وعزة الوطن.

ولربما كان هذا هو السبب الذي دفعني إلى التضحية بالبحوث العلمية التي كانت تروق لي وتستهويني، لتكريس وقتي وطاقاتي للعمل على تأمين ما يحتاج اليه شعبي من خدمات ضرورية ومنشآت رعائية وتعليمية. فقدمت الاعتذار للآباء اليسوعيين الأكارم عن متابعتي أعمال الإدارة في إصدار سلسلة “التراث العربي المسيحي” التي كانت تؤول إليّ إثر وفاة سلفي الطيب الذكر، المثلث الرحمة المطران الفاضل ناوفيطوس إدلبي، طاب ذكره، وكلي ثقة ويقين بأن اليسوعيين الذين يكرسون حياتهم للبحث والتأليف سيتابعون المهمة بنجاح وعلى اكمل وجه، مبيِّنا للأب العلامة سمير خليل آن ذاك، أنني أشعر بضرورة تكريس طاقاتي كلها للأبرشية العزيزة التي أرادني الرب خادما لها.وعندما ألتفتْ الآن لأنظر إلى الماضي من الأيام، فإنني أرى أنَّ تعاطفي مع أفراد رعيتي ومحبتي لكل واحد من المؤمنين كان دافعا فعالا وحافزا، جعلني أنسى ذاتي لأبادر مسرورا، إلى التعاون مع عدد كبير من أبناء الرعية للعمل، بنعمة الله وعنايته، على تدعيم بناء صرح الأبرشية وتعزيز قدراتها وتوطيد أركان مجتمعنا الغالي ومقوماته الحياتية، محاولا بما تيسر لي من إمكانات، العناية بأجيالنا الصاعدة وإنعاش القيم العريقة الكامنة في قلوبهم والمهارات المتوارثة السارية في عروقهم والتي تميزهم عن سواهم من أبناء شرقنا العزيز، و كنت أسعى في الوقت عينه إلى الإنخراط في صفوفهم ومرافقتهم في مسار حملتهم الجادة نحو النجاح والتفوق. فعملت على العناية بالتربية والتعليم بما اوتيت من قدرة، وقدمت لهم ما أمكن من المنشآت التربوية والمؤسسات التعليمية الحديثة، منها الأكاديمية ومنها المهنية والتقنية على أنواعها ومنها الفنية والثقافية.والحق يقال إنها هذه هي بالذات المنجزات التي تمنيت أن أرى، أكثر من أي شيء آخر، في المرحلة الحاضرة من حياتي. صحيح أنني قمت ببناء منشآت كبيرة عديدة لافتة ومتنوعة، أبّان خدمتي في هذه المدينة العزيزة، غير أن ما كان ينعش فؤادي على مرور الزمن وما يرطب خاطري اليوم، أكثر بكثير من مشاهدتي هذه المنجزات، هو أنني ورغم المصاعب الجمَّة التي واجهتني وعقبات لا حصر لها اعترضتني، استطعت وبعون الله ودعم المحسنين الكرام ومساعدة مَن هم حولي من الناشطين الأفاضل، كهنة و علمانيين، أن أقدم لأبنائنا كمًّا مما يحتاجون إليه من خدمات تربوية ومعيشية في الظروف القاسية التي مرَّ بها شعبنا في سنوات الحرب المريرة المؤلمة.

لقد دمرت المعارك بيوت الناس، ونسفت البنى التحتية والمشافي ومصادر الرزق على أنواعها وهدمت المدارس مما ألحق بكنائسنا ومؤسساتنا قسطاً كبيرا من الخراب. وعانيت مع أبنائنا وتألمت، فَهُمْ تعرضوا لخطر الموت وأنا أيضا تعرضت مثلهم لمخاطر متكررة، وهُمْ فقدوا ما حصّلوه وبنوه من جنى عمرهم آسفين وأنا بدوري رأيت متألما ما جاهدت لبنائه خلال السنوات الطوال خراباً ودماراً . هُمْ وأنا نعاني المعاناة عينها، الأمر الذي زادني شعورا بارتباطي الوثيق بأبناء هذه المدينة وبوحدة حالي معهم، وهو الذي دفعني على العمل في خدمتهم وسهَّل عليّ العطاء في سبيلهم، كونهم إخوتي وخِلاّني الأحبة، هم جزء من كياني، أحزانهم تؤلمني وأفراحهم تحييني.

خمس وعشرون سنة بتمام أشهرها الثلاثمائة وعديد أسابيعها وأيامها غير المحصية، قضيتها بين إخوتي الكهنة وابنائي المؤمنين، إنقضت كلها كلمحة بصر وكأنني كنت أرى حلما، فاستيقظت اليوم لأراه وللأسف يذهب كالسراب، ولكنه ولحسن الطالع، ترك وراءه عددا وفيرا من المنجزات المفيدة والذكريات المحببة التي تروي اليوم غليل فؤادي وهي سوف ترافقني طيلة الأيام المتبقية من حياتي. وأولى تلك الذكريات تأتيني من لقاءاتي مع إخوتي الكهنة المحبوبين، إن إفراديا مع كل واحد منهم أو جماعيا كما لمناسبة الأعياد والاجتماعات الأسبوعية التي كانت تضمنا دون انقطاع، وفي الرياضات السنوية التي كنا نقضيها سوية في واحد من الأديار الهادئة الجميلة، المنتشرة في أنحاء سورية ولبنان. وغالبا ما تعود إلى خاطري لقاءاتي مع أخوتي الأساقفة الأجلاء، حيث كنا نتشاور في شؤوننا الرعائية ونتبادل الآراء. ويطيب خاطري أيضا كلما عادت إلى ذهني لقاءاتي مع أبنائي المؤمنين في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية وفي الأعياد والاحتفالات، حيث كنت أشعر بالرباط الأسري الذي يشدّني إليهم ويربطني بكل واحد منهم، فيرتاح قلبي إلى تواجدهم بجواري وتزداد محبتي لهم مما يدفعني إلى المزيد من البذل في سبيلهم والعطاء.فلا غرابة في أن أكون قد عملت في خدمتهم بارتياح ودون انقطاع، كون التفافهم حولي ومحبتهم كانتا تدفعني إلى تلبية كل ما هو متاح من احتياجاتهم، روحية كانت أو ثقافية، وتعليمية كانت أو معيشية. ولذلك كنت تراني لا أهدأ إلاّ في سكينة أوقات صلاتي التي كنت أستمد منها ثباتي في الخدمة وصمودي في الجهاد، وكنتُ أسكنُ أيضا في أوقات خلودي إلى النوم لإراحة الجسم وتجديد قواي البدنية في هدوء الليل.أطلق عليّ بعضهم لقب المطران المِعْمار وآخرون أبا المشاريع أو الخطيب المفوَّه وغيرهم يقول عني إنني الرجل العنيد الذي لا يكلّ ولا يملّ، ولربما هذا كله يدغدغ اعتزازي أو يلفت الانتباه إلي، غير أن هذا لا يعنيني، وبالأحرى أتمنى أن يكشف أحدهم سر نشاطي ومعنى عطائي، وسوف أكون ممنونا و راضيا في هذا اليوم، الذي شئتم أن تحتفلوا فيه مشكورين، فأكون مسرورا كل السرور لو أنكم تكرمْتم علي وشرفتموني بتعريفي بكلمة واحدة دون سواها وسميتموني ب “الحبيب”، وهو اللقب الذي يُطلق على شفيعي القديس يوحنا الرسول، خليل الرب يسوع، قُدْوتي ومثالي في الحياة ودليل مساري على دروب المعلم. والحقُ يقال إن كل ما فعلته في زمن خدمتي الكنسية المديدة، و كل ماأنجزته من مشاريع كبيرة أو صغيرة، يجد معناه في محبتي للمسيح وللأبناء الأعزاء الذين تكرم الرب وأوكلني برعايتهم. فإن كنت أصلّي فلأجل سلامتهم صليتْ، وإن كنت أكتب وأتكلم فلإرشادهم كتبت و تكلمت، وإن كنت أبني فلهم بنيت، وإن كنت أسعى جاهدا فلأجلهم سعيت لأن محبتي لهم كبيرة وفي المحصلة إنني أرى أنَّ هذه المحبة عينها هي التي تفاعلت في كياني فولّدت في ذاتي طاقة خلَّاقة وأنجبت كل ما نراه قد تحقق من منجزات.

وأنا في هذا اليوم السعيد، إذ أشكر حضوركم حولي، أتوجه الى أبناء أبرشيتي العزيزة كافة، معبِّراً عن محبتي لهمم وعن بالغ شكري لولاء عطفهم وداعيا لهم وللحاضرين في هذا الحفل الكريم بالصحة وطول العمر وهناء العيش والسلام.

حلب في الخامس عشر من تشرين الثاني 2020

+ المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى