مقتطفات من رسالة صاحب الغبطة بمناسبة الميلاد ورأس السنة
إلى أبنائنا وبناتنا المؤمنين المحبوبين،
ليس ميلاد السيّد المسيح مولدًا يشبه مواليد البشر. إنّه ميلاد شخص له صفة جوهريّة إلهيّة تلازمه، له اسم يعرف به، له رسالة خاصّة إلهيّة تَسِمُهُ. إنّه ميلاد “مخلّص”، من دون أل التعريف. ميلاد مخلّص هو المسيح الربّ: “إنّي أبشّركم بفرح عظيم يكون للشعبّ كلّه… وُلِد لكم مخلّص وهو المسيح الربّ” (لوقا2: 10-11). وردت كلمة “مخلّص” قبل “المسيح الربّ”. تمييز دقيق في التعبير، في التعريف بالمولود الجديد، وكأنّ الكاتب يريد أن يلفت انتباهنا إلى أنّ المولود هو أوّلاً مخلّص، فليس المسيح الربّ هو المخلّص بل المخلّص هو المسيح الربّ. فالناس في ذلك الوقت كانوا في الواقع ينتظرون مخلّصًا وقد قيل لهم إنّ هذا المخلّص سيكون المسيح. فحين نتكلّم عن ولادة الربّ يسوع المسيح يجب أن نذكر وأن نتذكّر أنّه المخلّص. هكذا يقدّم لنا ذاته: “سمِّه يسوع”، التي ترجمتها مخلّص، فالاسم والشخص هنا هما واحد. وهكذا يريد أن نتقبّله، ولادة مخلّص، بحيث إنّنا إذا ما ذكرنا ميلاد السيّد المسيح من دون أن نذكر أنّه مخلّص نشوّه الميلاد، نُسقط من الميلاد غايته ومفعوله. قد يكون أجمل ما في الميلاد هو أن نعيش انتظار المخلّص، عيشًا فيه فرح ورجاء وسلام، عيشًا فيه آفاق جديدة واكتشافات جديدة تشجّع على الاستمرار والمضيّ في الحياة.
اليوم، في مدينة داود، وُلِد لنا مخلّص. ولكن مـمَّ يخلّصنا؟ من خطايانا: “ستلد ابنًا فسمِّه يسوع لأنّه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم” (متّى1: 21). الهدف من ولادة المخلّص المسيح الربّ واضح كلّ الوضوح لا لبس فيه. لم يولد المسيح الربّ ليكون قريبًا منّا، معنا، وحسب. قد وُلِد المخلّص ليخّلصنا من خطايانا بالتحديد وليس من عبوديّة مستعبد أو من فقر محتاج أو من ظلم مستبدّ أو… فالخلاص من الخطيئة يجلب الخلاص من كلّ شيء آخر لأنّ الإنسان هو محور الخلاص وغايته. والإنسان المخلَّص ينقل الخلاص للعالم. أجل، نحن خطأة وفي حاجة إلى خلاص. غالبًا ما تغيب عنّا هذه الحقيقة. غالبًا ما نعيش وكأنّنا بلا خطيئة. في حين أنّ الكنيسة تذكّرنا بها كلّ يوم داعيةً إيّانا إلى التوبة قبل أن نتقدّم للمناولة فنقول: “أنا أؤمن يا ربّ وأعترف أنّك أنت حقًّا المسيح ابن الله الحيّ (اعتراف بطرس في متّى16: 16) الذي أتى إلى العالم ليخلّص الخطأة الذين أوّلهم أنا” (اعتراف بولس في 1تيم1: 15). فإذا ما ذكرنا الميلاد ولم نتذكّر أنّنا أناس خطأة نكون بعيدين عنه، نكون خارج “اللعبة”، خارج التدبير الإلهيّ، خارج الغاية التي من أجلها حصلت الولادة. علينا أن نتقدّم من المولود الجديد برهبة الرعاة ووقار المجوس. قد تنسينا الزينة الخارجيّة هذه الحقيقة وهي أنّ الميلاد هو ميلاد مخلّص لأناس خطأة، ضعفاء، هشّين، خائفين: “لا تخافوا… وُلِد لكم مخلّص”. لكن إذا ما تذكّرنا غمر الفرح قلوبنا ولا نعود أناسًا مغلوبين على أمرهم.
خبرة الحاجة إلى مخلّص وانتظار مخلّص يعيشها الناس اليوم خبرةً على مستوى آخر ومن نوع آخر. عالم اليوم تجتاحه جائحة الكورونا وهو في حاجة إلى الخلاص منها، يترقّب الخلاص منها. وهذا الخلاص المنتظر هو اللقاح الذي تبارت مختبرات ودول للحصول عليه أوّلاً. بالمقارنة، ولو بعيدة كلّ البعد وعلى مستوى أعلى ومن نوع أسمى، نرى الميلاد هو ذلك اللقاح الذي كانت البشريّة في حاجة إليه وتترقّبه للخلاص من الخطيئة. الله تعالى يقدّم لنا هذا اللقاح، يطعّم البشريّة بألوهته بواسطة ابنه وكلمته المتجسّد والمولود من العذراء ويخلّصها بهذا اللقاح من الخطيئة. هذه الصورة، هذه الحقيقة للتجسّد عبّر عنها القدّيس يوحنّا الرسول بقوله: “كلّ من هو مولود من الله لا يفعل الخطيئة لأنّ زرع [الله] حالٌّ فيه، ولا يستطيع أن يخطأ لأنّه مولود من الله” (1يوحنّا3: 9). زرع الله، لقاح الله، خلاص الله، هو المولود اليوم في بيت لحم، هو ابن الله الذي حلّ في أحشاء السيّدة العذراء بالروح القدس ووُلد منها، الذي هو بهذا الفعل إله وإنسان معًا. فلا خوف من بعد على البشريّة مهما حصل لأنّها شُفيت بالألوهة ولن تنال منها الخطيئة بكلّ أشكالها، حتّى الموت، هذا “العدوّ الأخير”، كما يسمّيه بولس يتلاشى: “آخر عدوّ يلاشى هو الموت” (1كور15: 26).
ميلاد الربّ يسوع جعل اللهَ “اللهَ معنا”. لم يكن ميلاده حدثًا عابرًا. كان ميلاده بقاء معنا. نصب خيمته فيما بيننا. سكن عندنا. خصّص يسوع كلّ وقته لنا، “تفرّغ لنا” بل “أفرغ ذاته آخذًا صورة عبد صائرًا شبيهًا بالبشر فوُجد كإنسان في الهيئة” (في2: 7). كان يسوع “يأخذ وقته” مع الناس. ما كان يصنع معجزة وينصرف أو يعلّم تعليمًا وينصرف. كان يجالس الناس، يخالطهم، يحادثهم. هكذا حوّل يسوع بميلاده الوقت من تسلسل زمنيّ إلى فسحة تلاق فيها نلاقي بعضنا بعضًا، نتوقّف بعضنا عند بعض. فسحة ليس فيها أناس على الطريق وأناس على حافة الطريق، أناس في البيت وأناس في العراء، أناس يتنعّمون وأناس يتوجّعون. ننهي هذا العام والناس ازدادت فقرًا وتعبًا وقرفًا وخوفًا، والآفاق ما عادت تلوح واعدة والحياة ما عادت تبدو حلوة. بغفلة منّا انقلب العالم من حال إلى حال أمام حيرتنا. كثيرون ما عاد عندهم مقوّمات العيش حتّى الزهيد. فهل نخصّص نحن شيئًا من وقتنا لنلاقي القريب ونهتمّ به؟ قد تشغل مشاريعنا الخاصّة كلّ وقتنا. هل القريب من بين هذه المشاغل؟
يتقارب الناس بعضهم من بعض في هذه الأوقات أكثر من أيّ وقت مضى بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ الكثيرة المتنوّعة، إنّما في أعظم الأحيان تقاربًا افتراضيًّا مغايرًا للتقرّب الذي يحمل نفحة إنسانيّة أعني دفئًا وحياة. وكثيرًا ما يؤول هذا التقارب إلى غزو بعضنا حياة البعض الآخر بحيث لا ندع بعضنا لبعض حرمة ولا خصوصيّة ولا حرّيّة، وكثيرًا ما يؤول أيضًا إلى إساءات وشتائم وفضائح وما إلى ذلك. ليس كلّ اقتراب تقرّبًا. لم يقترب السيّد المسيح منّا بميلاده بل تقرّب، أي أتى إلينا وقبلنا محترمًا حرّيتنا وكرامتنا وخصوصيّتنا البشريّة، مقدّرًا هوّيّتنا البشريّة ومعطيًا بذلك نموذجًا للتقرّب هو أن نأتي بعضنا إلى بعض كما أتى اليوم إلينا متواضعًا وديعًا مسالمـًا وأن نقبل بعضنا بعضًا على تنوّعنا. كثيرون اقتربوا من السيّد المسيح في حياته على الأرض. كان اقترابهم اقترابًا بالمسافة، دنوًّا، ومعظمهم قد تركوه. هكذا كان يفعل الفرّيسيّون إذ يدنون منه وفي معظم الأحيان للنيل منه. قلّة قليلة تقرّبت منه. تقرّبت منه يعني قبلته وقبلت رسالته وتعليمه: “أتى إلى خاصّته وخاصّته لم تقبله. أمّا جميع الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا أن يكونوا أبناء الله” (يوحنّا1: 11-12). على هذا النحو يجعل منّا تقرّبُنا بعضنا من بعض إخوة تسود فيما بيننا المساواة والاحترام المتبادل والتعاون وما إلى ذلك.
بهذه البشرى الحاملة الخلاص الآتية من السماء أتوجّه إلى جميع أبنائنا في العالم كلّه مصافحًا ومعايدًا وحاملاً أجمل الأماني وداعيًا إلى الصلاة وإلى العمل حيثما كنّا من أجل عالم أفضل يرى ويلمس كلّ إنسان أنّ له فيه مكانًا واحترامًا وكرامة وحرّيّة، أنّ له بيتًا يولد فيه وغطاء يدفّيه وعملاً يقتات منه. وإلى السيّدة العذراء مريم التي أعطت للعالم الربّ يسوع وكانت رفيقة دربه في عمل الخلاص نوجّه أبصارنا في هذا العيد المبارك بنوع خاصّ ونطلب إليها أن ترافقنا وتحفظنا وتقودنا إلى الربّ يسوع مخلّصنا، منشدين لها مع الكنيسة في ميلاد ابنها: “أيّتها الأمّ البتول، إنّ حبّنا يعجز عن أن ينظم لك نشائد تليق بك، لذلك نؤثر الصمت مخافة [أن لا نقول ما يليق]. فعلى قدر رغبتنا أولينا قوّة (لمدحك).
+ البطريرك يوسف العبسي