مقالات تاريخية

تاريخ طائفة الروم الملكيين الكاثوليك في حلب (1)

إنَّ أبرشية حلب هي الأبرشية الوحيدة التي ظلت قائمة في ماكان يعرف بسوريا الأولى أي المقاطعة الخاضعة مباشرةً لأنطاكية والتي أنجبت العديد من الآباء القديسين والرهبان .إنها قائمة لوحدها في سوريا الشمالية وتجَّمع فيها المسيحيون الذين نزحوا عن الأناضول عقب الحرب العالمية الأولى . ولذا لحلب مكانة خاصة ضمن البطريركية الإنطاكية نتيجة الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا.

نبذة تاريخيّة:

في العصرين الروماني والبيزنطي كانت بيرية أو حلب أبرشية متوسطة تدور في فلك انطاكية،وتوطدت فيها المسيحيّة منذ عهد الرسل. وأوّل أسقف معروف لها، هو القديس أوسطاتيوس الذي أصبح بطريرك أنطاكية، ولعب بهذه الصفة دورًا هامًا في المجمع النيقاويّ عام 325))، وقاوم آريوس في المجمع النيقاوي وقاسى النفي لدفاعه عن المجمع. وأشهر أساقفة حلب، في عصر الآباء الذهبيّ، أكاكيوس أو آقاق (379-433)، الذي لعب دوراً هاماً في حياة الشرق والكنيسة طيلة نصف قرن. وكان المؤرخ الشهير ثاوذوريطس أسقف قورش، صديقًا له، وكان يزوره مرارًا، معرّجًا في طريقه على منسك القديس سمعان العموديّ . بعد المجمع الخلقيدونيّ (عام 451)، إنقسمت كنيسة حلب بين مؤيّد ومعارض له، إنّما ظلّ أنصاره (الملكيّون) أصحاب النفوذ في حلب.

وفي العصر العربي ( منذ عام 637 ) بعد أن إندثرت الأبرشيات العديدة في شمال سوريا ، ظلَّت أبرشية حلب قائمة لوحدها وازدهرت في عهد سيف الدولة ، وكانت علاقاتها وطيدة مع انطاكية حيث مقر البطريرك وكانت أقرب الأبرشيات إليه . ولما وقعت انطاكية تحت حكم الروم ثم الفرنجة ،ظلت حلب تحت الحكم العربي تجسِّم مقاومة العرب على جبهة الشمال.

وكانت الكاتدرائيّة التي بُنيت في العهد البيزنطيّ (والتي لا تزال آثارها قائمة اليوم، في المدرسة الحلوية ) في حوزة الملكيين، وظلّوا يصلّون فيها حتى عام 1114، قبل أن تُحَوّل إلى مسجد، كردّة فعل على تعدّيات الفرنجة (الصليبييّن) من إمارة انطاكية.

وحلت النكبة بانطاكية لما استعادها بيبرس من الفرنجة ودمَّرها (1268) ،وانتقل الكرسي الأنطاكي إلى دمشق . ثم حلَّ الدمار بحلب عقب غزوات تيمورلنك (1400) واضطر سكانها المسيحيون إلى مغادرة المدينة .
وفي مطلع القرن السادس عشر،مع بدء الفترة العثمانية (1516)،ألغيت الحدود الشمالية وفُتِحت لحلب أسواق الأناضول. وعرفت المدينة ازدهاراً جديداً، وعاد اليها المسيحيون .وتركَّزوا في أحياء جديدة خارج الأسوار.وتكاثروا وأثروا وأصبح لهم جاليات هامة في اسطنبول وأزمير وقونية وأدنا ومرسين واسكندرون علاوة ً على علاقتهم بالموصل وبغداد وسائر بلاد الشام.وأصبحت أحد مراكز النهضة المسيحية الحديثة في الشرق،والمركز الآخر كان لبنان فخر الدين.وكانت النهضتان مستقلين الواحدة عن الأخرى.وتوافد إلى حلب التجار الغربيون وأُنشئت فيها أقدم القنصليات،وجعل منها المرسلون اللاتين مركزهم الأول في الشرق،ومنها انطلقوا إلى دمشق وصيدا وطرابلس.
وعرف المسيحيون في حلب في القرن السابع عشر نهضة عمرانية وفنية وثقافية وروحية تجلّت في الأبنية والأيقونات والمخطوطات…وتعلّم فئة من الشبان الحلبيين على يدي الشيخ سليمان النحوي وأتقنوا اللغة الفصحى فألّفوا كتب النحو والمعاجم،وتركوا آثاراً مرموقة،وازدهرت مدرسة الأيقونات الحلبية الملكية مع يوسف المصوّر وابنه نعمة وحفيده حنانيا ثم ابن حفيده جرجس.ونشأت الأخويات والمدارس وانبعثت الحياة الروحية وازدهرت.ويعود الفضل لتأسيس الجمعيات الرهبانية في لبنان لدى مختلف الطوائف لشبان حلبيين.

كان المسيحيون من مختلف المذاهب (روم وأرمن وسريان وموارنة…) يعيشون في وئام ضمن محيطهم الإسلامي.وكانت الطائفة الرومية الملكية أكثر الطوائف عدداً وغنىً.وكانت أبرشية حلب الملكية أكبر الأبرشيات الملكية وأغناها،وأبناؤها الأكثر نفوذاً في العاصمة العثمانية.وأعتمد البطاركة كثيراً عليها وكان يطيب لهم المكوث فيها.وأعطت حلب للكنيسة الملكية في القرن السابع عشرالاحبار العظام: ملاتيوس كرمة ومكاريوس زعيم علاوة على كيرلس الحلبي.وكان أثنايوس دباس الدمشقي الأصل يفضلها على مدينته وأقام فيها ورعى شؤونها سنين طويلة.وظلّ مقيماً فيها حتى بعد استفراده بالكرسي البطريركي ومات فيها.

أصبحت جماعة الملكيين في حلب، عام 1700، مناصرة في أغلبيّتها الساحقة، للاتحاد مع روما، إلا أنّ الحلبيّن ماكانوا يرضون، مع ذلك، بالقطيعة مع الكنيسة الشرقيّة الأرثوذكسيّة، ففي عام 1724، اعترفوا بالبطريرك سلفستروس، منتخب القسطنطينيّة الأرثوذكسيّ، لا بالبطريرك كيرلس طاناس، منتخب كاثوليك دمشق. إلا أنّهم ثاروا على سلفسترس لتعصّبه، وليتخلّصوا من سلطته ارتبطوا مباشرة بالبطريرك المسكونيّ، الذي وعد بمنحهم أسقفًا متساهلا. إلا أنّه بعد قرار مجمع انتشار الإيمان بمنع الاشتراك بالقدسيّات مع الأرثوذكس (1729) استحصل الحلبيّون، وكانوا متنفذين في بلاط إسطنبول، على الاعتراف باستقلال أبرشيتهم، والاعتراف بمرشحهم الكاثوليكيّ مكسيموس حكيم. وكان مكسيموس حكيم في شركة مع البطريرك كيرلس طاناس، وتمكّن من المكوث في ابرشيّة حلب، من عام 1732حتى 1757، ما عدا فترات متقطعة اضطر فيها إلى اللجوء إلى لبنان، حيث مكث في دير الملاك ميخائيل في الذوق.( أصبح بطريركا عام 1760 )

وفي عام 1757، استولى الأرثوذكس اليونان على الكاتدرائية ، واضطَّر خلفاء مكسيموس حكيم على البقاء في لبنان ( ذوق مكايل ) .وهم المطران اغناطيوس جربوع ( 1761-1776) ثم المطران جرمانوس آدم ( 1777-1809 )وتلاه المطران مكسيموس مظلوم (1810 -1811) ( ثم أصبح بطريركاً ) ،ثم المطران باسيليوس عرقتنجي ( 1816 -1823 ) ثم تلاه كمدبر رسولي لأبرشية حلب أسقف زحلة أغناطيوس عجوري ( 1824 -1831 ).
وقام اضطهاد عنيف على الروم الكثوليك بحلب عام 1818 واضطر جميع الكهنة الروم الكاثوليك لمغادرة حلب ولم يعودوا إليها إلاّ عام 1825 بعد اتفاق ودّي مع الارثوذكس.

وفي عام 1830على أثر معاهدة لندن، التي عقبت حرب تحرير اليونان، اعترفت السلطة العثمانيّة بالكاثوليك، الذين تحرروا من ثمّ من سلطة الأرثوذكس. ورافق ذلك، دخول جيوش إبراهيم باشا المصريّ إلى سوريا، وكان في حاشيته العديد من الروم الكاثوليك. وبعد أن حصل الكاثوليك بوجه الاجمال على اعتراف السلطة العثمانية بهم.
تمكّن أساقفة حلب منذ عام 1833 أن يعودوا إلى مركز أبرشيتهم فازدهرت الحياة المسيحية فيها وعمّت المدارس والمشاريع.

فتمكن المطران غوريغوريوس شاهيات (1833-1843 ) من الإقامة في كرسيه في حلب .،وتمكن الروم الكاثوليك في عهده ، من بناء كنيستين جميلتين : الكنيسة الكاتدرائيّة في حي الصليبة وكنيسة القديس جاورجيوس في حي الشرعسوس .واندمجوا في الحياة الوطنية خلال العهود التي تعاقبت على سوريا ، وازدهرت مؤسساتهم الثقافية والإجتماعية.

وكانت طائفة الروم الكاثوليك بحلب هي الأكثر نفوذاً نظراً لعدد كهنتها ومؤمنيها وتنفذّهم في الأوساط الحكومية والأقتصادية.وكان عدد كبير من كهنتها يخدمون خارج حلب في لبنان ومصر والسودان وتركيا .وننوه أن معظم أدباء حلب في القرن التاسع عشر من الروم الكاثوليك.

وتبع المطران غريغوريوس شاهيّات في أواخر العهد العثماني المطارنة ديمتريوس أنطاكي (1844-1863 ) ثم المطران بولس حاتم ( 1863-1885 ) الذي اشتهر كثيرا وكان صديقا وممثلاً للبطريرك مظلوم قبل ارتقائه السدة الأسقفية .،والمطران كيرلس جحا (1885-1902 ) ( ثم أصبح بطريركا ) ،تلاه المطران ديمتريوس قاضي. (1902-1919 ) (والذي أصبح بطريركا ) .

تلاهما المطران مكاريوس سابا ( 1919- 1943 ) وقد عاصر عهد الانتداب الفرنسي فالمطران ايسيدوروس فتّال ) 1943 – 1961( وشهد فجر الاستقلال . وتبعه المطران أثناسيوس توتونجي (1961 -1968 ) ، أما المطران ناوفيطوس ادلبي ( 1968- 1995 ) فعاصر فترة الحركة التصحيحية وتبعه المطران يوحنا جنبرت ( 1995 – ) راعينا الحالي ورافق دخول الألفية الثالثة وكان له اهتمام كبير بالشبيبة وكان همّه الأكبر توعية الشبيبة وتأهيلها بكافة السبل المتاحة لكي تقوم بدورها الريادي في المجتمع ، فنظَّم مؤتمرات شبيبية واسعة النطاق وبنى المدارس والمعاهد المهنية ، وقام بمشاريع إسكانية متعددة للأسر المسيحية الناشئة ، غير أن الحرب الظالمة التي وقعت على البلاد جمَّدت انطلاقته الرائعة ولكنها لم تثني عزمه فوقف صامداً إلى جانب أبنائه في حلب يقَّدم لهم ماتيسَّر له من مساعدات ومحاولاً بعزم وثبات وبشتى السبل العمل على الحد من نزيف الهجرة واستمرار الوجود المسيحي الفاعل في الوطن العزيز رغم المعوقات العديدة والتحديات الجسام ، وهو مازال يجاهد حتى اليوم حفظه الله لسنين عديدة في خدمة الرعية.

سنحاول بإختصار في مقالات قادمة الإضاءة على فترة تولي كل مطران على حدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى