كلمة الراعي

الصيام عودة وحياة

إن الكلام عن الصيام قد يطول لكثرة ما يعطيه الناس واللاهوتيون من معاني. فمنهم من يعتبره فرصة لترويض الذات على الاحتمال والصلابة في السيطرة على نزوات الجسد وجموح غرائزه. ومنهم من يعتبره تضحية يشارك من خلالها المؤمن في معاناة المسيح وآلامه من أجلنا. ومنهم من يعتبره قرباناً وذبيحة يرفعها إلى الله تكفيراً عن خطاياه وهفوات حياته. ومنهم أيضاً من يعتبره وسيلة، يترفع بواسطتها الإنسان المؤمن عن الأرضيات فيتحرّر من ضغوطات الحياة اليومية ومشاغلها لكي يعود إلى أعماق ذاته متفرغاً لما هو لله خالقه ومخلصّه يسوع المسيح، وهنا بيت القصيد، كوننا بدون صلة وثيقة نقيمها مع الكلمة المتجسد لا نستطيع أن نحيا الحياة الجديدة الإلهية التي وعدنا بها الرب حين قال لنا: ” اثبتوا في وأنا فيكم، لأنه كما أن الغصن إذا لم يثبت في الكرمة لا يستطيع من نفسه أن يأتي بثمر، كذلك أنتم أيضا إن لم تثبتوا في.”(يو 15:4).

عندما نتكلم عن العودة إلى الرب والحياة معه، لا يسعنا أن نسهى عن إرشاد المعلم في هذا الشأن، حيث يوضّح لنا بصريح العبارة وبما لا يحتمل الشك أن السبيل إلى ذلك هو الثبات في محبته وهي لا تتحقق إلا عندما نحفظ وصاياه، ولاسيما بالتزامنا بوصية المحبة ام الوصايا ومصدر معانيها وسيدتها على الإطلاق. والمعلم الإلهي يقول لنا صراحة: ” إذا حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي، كما أنني حفظت وصايا أبي وأنا ثابت في محبته. وهذه وصيتي لكم: أحبوا بعضكم بعضا كما أحببتكم أنا، فليس لأحد حب أعظم من أن يبذل نفسه عن أحبائه، وانتم أحبائي إذا عملتم بما أوصيكم به…. وما أوصيكم به هو أن يحب بعضكم بعضاً.” (يو15:10,13).

والحق يقال أن المنطق السليم يشير إلينا بأن من يحبّ بصدق يفسح في ذاته مجالاً لكي ينساب إلى قلبه العطف من حيث لا يدري، ويزدان ذهنه بالوعي إلى مكانة الآخر واعتبار حقوقه والشعور بضرورة معاملته بالحسنى. وهذا بطبيعة الحال، ما يفضي بالضرورة إلى حفظ مجمل الوصايا. فمن يحب القريب كمن يحبّ الله، كما علمنا المخلص. وإن أقرب أقربائنا هم الأب والأم اللذين علينا إكرامهم. كما أن كل من يجاورنا أو يلجأ إلينا هو بعرف المسيحية قريبنا. ومن أحب قريبه يحترمه ولا يؤذيه ولا يتعدى على ماله أو عرضه كما أنه يحرص على عدم أذيته. ففرائض الوصايا كلها تتجلي عندما تكون فينا المحبة وتظهر فاعلة في واقع الحياة، وتتحوّل رويداًً رويداًً لتصبح فضائل إلهية ثابتة، يتحلى بها المؤمن المحب الذي يستسيغ الرب صداقته وقرباه، فيثبت فيه ويغدو بذلك هيكلا لله يشعّ طيباً والرحمة التي فيها مرضاته تعالى، كونه يطلب من عباده ” رحمة لا ذبيحة “، كما يقول الكتاب.

وان هذا الثبات في المخلص يسوع، كلمة الله وعنوان محبته لنا، الذي يتحقق فينا بحفظ وصاياه، يجعلنا نعلن ونقول مع القديس بولس الرسول بكل ثقة وجرأة: ” لست أنا بعد أحيا وإنما المسيح هو يحيا في”. وبما معناه أنني مندفع من داخلي ومن أعماق كياني إلى التصرف عينه الذي يتصرف به معلمي الذي ملأ حياتي وأنار عقلي واستحوذ على كل تطلعاتي ليحقق آمالي. وعندئذ نستطيع أن ننشد بكل ثقة وجرأة مع رسول الأمم هذا النشيد الرائع: “ومن يفصلنا عن محبة المسيح؟ فإني لواثق بأنه لا موت ولا حياة… لا حاضر ولا مستقبل ولا قوات، لا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى أياً كانت، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع، ربنا” (رو: 8:38-39). وإن اتحادنا الوثيق به هذا، يجعلنا نحيا معه ونعمل بإيحاءاته كل الخير والصلاح وننتصر معه على كل شرّ وفساد وبما في ذلك الموت إن أتى.

 وأما في هذه الظروف الحرجة التي تمرّ بها بلادنا وتؤلمنا شديد الألم، فلنردد صيحة أبائنا المفعمة ثقة بالله ورجاء: ” المسيح معنا فقفوا”، فتشددوا إذا ولا تخافوا يا أيها المؤمنون، لأن الذي نعبد هو ربٌّ كليّ الصلاح، واله الرحمة لبني البشر، وهو الجبّار القدير.

                                            +المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى