الصيام فسحة للصلاة والتواصل مع الخالق والمخلوق
إن أفضل ما يعطينا إياه الابتعاد عن العالم والتخلي عن الذات ونزواتها بالصيام المبارك، هو متسع من الأجواء الهادئة وفسحة من السكينة، تيسر لنا التسامي عن الأرضيات والتواصل مع الرب من خلال صلاة واعية وعميقة من شأنها أن تقربنا من الله وتهيئ أذهاننا للإنصات إلى إيحاءات روحه، وتنير عقولنا بإشعاعات تعاليمه السماوية، وتفتح قلوبنا لتستقبل عواطف محبته التي تولد فينا رحمة وإحساناً ينسكب سخيا على أعمالنا وعطاءاتنا لكل من هو حولنا من الناس ولكل من يقصدنا.
كما أن ما يوفره لنا الصيام من أجواء صمت وصلاة، حين نتحاشى صرعة يومياتنا المشتتة بسعيها وراء قشور الدنيا وتفاهات الحياة، ينشئ في قلوبنا رجاء ينير أبصارنا المعمية بهموم لا طائل لها وطغيان الماديات الفانية على عقولنا، وهو في الواقع صمت فاعل وخلاق، يؤهلنا لمواجهة التحديات الطارئة التي غالبا ما تقف حجر عثرة تحول دون اتخاذنا القرارات المناسبة لخدمة رسالتنا المسيحية بين الناس. ولذلك نرى انه من الضرورة بمكان أن نلجأ إلى التخلي عما هو حولنا والانزواء لنركن إلى الصلاة التي توصلنا من خلال الصمت والتأمل إلى التلاقي مع مصدر الصلاح وأب المراحم والخير كله. وهذا ما أوصانا به المعلم الإلهي حين قال لنا:” أما أنت فمتى صليت فأدخل مخدعك، وأوصد الباب، وصل لأبيك الذي هو هناك في الخفية.
وأبوك الذي يرى في الخفية هو يجازيك” (متى 6:6).
فالصيام الذي يحثنا ويدفعنا إلى الانتفاض على خنوعنا للإمساك بزمام أمور حياتنا، يدفعنا في الوقت عينه إلى الترفع عن رغبات جسدنا ونزوات غرائزنا، مما يساعدنا على التحرر شيئا فشيئا من قيود الدنيا التي تحيط بنا، لننفتح على الحياة الإلهية التي تسري في عروقنا، بنعمة الروح القدس،
لتولد فينا المحبة الخالصة للمسيح السيد والرحمة لأخصائه المحتاجين إلينا من بني البشر.
والحق يقال أن زمن الصيام المبارك هو أيضا زمن مؤاتٍ للعودة إلى فضيلة الايمان وقواعدها ولاسيما تلك التي تتصدر الوصايا العشر وكل الوصايا أعني بها مطلع الوصايا العشر: “أنا هو الرب إلهك، لا يكن لك اله غيري والثانية التي تشبهها، كما يقول لنا المعلم، أحبب قريبك كنفسك”. وإن “أحبب قريبك” هو نهج وضعه المسيح لكل من يلتقيه ويود ان يتبعه على طريق الحق والحياة. فالصيام الذي يرشدنا إلى سبل التخلي عن ذاتنا وعن بعض احتياجاتنا لفترة من الزمن يروضنا في الوقت عينه على التضحية التي لا بد منها لتخطي متطلبات أنانيتنا متساميين عنها للمبادرة إلى الاهتمام بالآخرين، وإعطائهم بعض ما أخذناه من ذاتنا، رحمة بهم وأمانة لوصية الذي علمنا سواء السبيل، والذي كان لنا القدوة في وبذل الذات وسخاء العطاء إلى أقصى الحدود وحتى الفداء.
وإن الصلاة التي هي من مقومات الصيام الصحيح، تشكل منفذاً يلج منه الروح إلى حياتنا التي يكاد يخنق أنفاسها طغيان المادة وجمود عالمنا المعاصر. وأضف إلى ذلك أن التضحية ببعض ما لنا من خيرات ومنافع في زمن الصوم من شأنه أن ييسر لنا أعمال الرحمة والإحسان، وفي هذا تعبير صادق عن محبتنا لله وسبيل أكيد لبلوغ العبادة الحقة التي ينتظرها الرب من المؤمنين به، فهو يطلب منهم الرحمة قربانا لا الذبيحة، كما يقول الكتاب. ولا يخفى على احد أن في ذلك خير للمجتمع على مختلف الأصعدة: الفقراء يرحمون والجياع يشبعون والمحزونون يعزّون والمتخاصمّون يتصالحون والمظلومون ينالون حقوقهم بالعدل والإنصاف. وفي ذلك أيضا خير وخلاص للصائم الذي ينال بالرحمة والاهتمام بالآخرين مرضاة الرب يسوع والجلوس عن يمينه في المجد الخالد مع المختارين، مباركي الآب السماوي.
ليكن صيامكم مرضياً ومباركاً.
+ المطران يوحنا جنبرت