كلمة الراعي

“المعجزة” دون بوسكو

في مطلع القرن التاسع عشر، كان الغرب يتخبط في حروب ويعاني من ويلات العنف والخراب ، إلى أن أفل نجمٌ ارضيٌ عنيف وسطع نجمٌ آخر سماوي ودود. أفل نجم نابليون العظيم ثم انقضى في معركة واترلو الشهيرة سنة ١٨١٥ ، وولد في السنة عينها طفل وديع في بيت فقير من بيوت بلدة “كاستل نوفو” شمال إيطاليا اسمه يوحنا. الأول خاض المعارك من اجل أمجاد الدنيا، أما الثاني فكان له أن يخوض معارك في سبيل الله والمستضعفين. الأول سعى في حياته إلى إرواء غليله إلى الجاه والكبرياء والتسلط على الناس ، وأما الثاني فقد سعى إلى إرواء غليله إلى المحبة والتواضع وخدمة البشر. الأول سعى إلى إقامة إمبراطورية العنف والاستعمار واستثمار الخلق والبشر، وأما الثاني فقد سعى إلى ترسيخ ملكوت البر والحنان ورفعة الإنسان والمجتمع. الأول كغيره من عظماء هذا الدهر قضى وانتهى ، وأما الثاني فاستمات ثم قام ليبقى حاضرا في مئات الآلاف من الساليزيين، ممن تسموا باسمه ، ليجددوا حياته المكرسة لخدمة الأجيال الصاعدة والملايين من بني البشر.

أرسل الله دون بوسكو إلى كنيسته في عصر متخبط بالصراعات الفكرية والاجتماعية والناس فيه، هم أحوج ما يكونون إلى نبي ينذرهم والى رسول راع يجمعهم ويرشدهم إلى سبيل الخير ومخافة الله والخلاص. وفي أواسط القرن التاسع عشر، حيث كانت قد بدأت الثورة الصناعية والتحركات الشعبية ومعاناة الناس على أكثر من صعيد في تورينو مدينة الصناعة والأعمال، أرسل الله رسولا إلى شعبه ، وأعطاه نعمته المقدسة للعمل الخلاصي عام١٨٤١ في الخامس من شهر حزيران، يوم ارتسم يوحنا بوسكو كاهنا على مذابح الرب ليصبح “دون بوسكو” رسول الشبيبة والناشئة. أتى في عصر كان الناس يعانون فيه من مصاعب معيشية جمّة بينما الشبيبة حائرة من أمرها وفي ضياع لبعدها عن الدين والحياة السوية بشكل عام وعن الكنيسة الأم بشكل خاص.

 انطلق الكاهن الشاب في مشروع حياتي، اختار أن يكون عنوانه: إعادة شبيبة عصره إلى المسيح الراعي الصالح  في كنف الكنيسة حيث بر الأمان وحقل المحبة وميدان الجد والصلاح. فكان له ما كان يحلم به بأن يضم الناس حول مريم الحنون ام الكنيسة ومعينة المؤمنين وشفيعة المسيحيين. وكان شعاره في كل أعماله وفي كل مبادرة رعوية يطلقها أن :”أعطني النفوس وخذ مني ما تشاء”

كان له ما أراد إبّان حياته الناشطة وبعد الممات. لقد جمع دون بوسكو طيلة عمره أعدادا كبيرة من الشبان بما فيهم التائهين ، وساعد الآلاف المؤلفة منهم على إيجاد سواء السبيل. وقد حرص على اختيار الكثيرين منهم وإعدادهم خير إعداد لمساعدته في رسالته هذه ولمتابعة المسير في إثْره على دروب عمل الخير والإصلاح . فكان أن استمر عمله الجميل في هذا العالم المتألم بعد انتقاله إلى جوار معلمه الحبيب يسوع المخلص.

 لقد عمل أثناء حياته على هذه الأرض، بكل ما أوتي به من وقت وقوة، واستمر بعد أن غادرها يعمل فيها من خلال أعداد لا تحصى من تلامذته المعطائين، من كهنة وإخوة رهبان وأخوات راهبات ومجموعات المعاونين، حتى بلغ عديدهم اليوم قرابة الثلاثمائة ألف رسول، بين رجل وامرأة، يعملون منتشرين في أنحاء العالم وهم يخدمون في أنشطتهم البناءة زهاء عشرة ملايين من الناشئة والبالغين ، ويعيدون إلى البيت الأبوي الآلاف المؤلفة من أبنائه التائهين.

نابوليون العظيم ساد العالم عقدين من الزمن ، وأما دون بوسكو الوديع فقد خدم وما زال يخدم الناس طوال قرنيين مديدين من تاريخ البشر، وسوف يستمر بعزم ونشاط إلى ما شاء الله ، داعماً بشفاعته في السماء إخوته الساليزيين الذين يملؤون الدنيا بروحه الطيبة المفعمة بالفرح وفكره النير الباعث إلى الاطمئنان ومحبته الواسعة الشاملة جميع المحتاجين. الأول، سلطان هذا الدهر ذهب وانقضى ، وأما الثاني خادم أبناء البشر فقد بقي حيا واستمر في مملكة لا حدود لها، أعطيت له من السماء. هو حاضر إلى اليوم في واقع الحياة وانتصاراته دائمة دوام الأيام ، بينما ملك الدنيا ذهب ولم يبقَ له سوى لمحة سريعة في كتب التاريخ السحيق. أليس في ذلك إعجاز؟ أو ليس دون بوسكو خادم الرب المتواضع القديس معجزة في حياة الكنيسة وتاريخ البشر؟

لقد كان لمدينة حلب حصة معتبرة من عطاءات هذا القديس، حيث سعى المثلث الرحمة المطران ايسيدوروس فتال والى جانبه السيدة التقية الفاضلة ماتيلد سالم، واللذين كان لهما الفضل في إنشاء “مؤسسة جورج سالم الخيرية”، إلى استقدام الآباء الساليزيين إلى حلب لإدارة مدرسة صناعية كان قد أوصى بها المرحوم جورج سالم، إثْر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكان لهما ما أرادا في عام 1948 ، وانطلقت هذه المدرسة بإدارة آباء دون بوسكو الأفاضل، لتقدم لأبناء حلب خدمات تأهيلية وتربوية مميزة، كان لها أثر بالغ في رفع سوية المهارات المهنية عند العديد من الحرفيين والصناعيين، وبالنتيجة حسّنت أحوال العاملين المادية ورفعت من سويّة المنتج الوطني جودة ومردودا. غير أن هذا الصرح التعليمي الناجح توقف عن العمل مرغما يوم استُولي على المدارس الكاثوليكية في عام ١٩٦٧ لأسباب ما زلنا لا نستوعب أبعادها ولا نرى جدواها.

أما اليوم ، وبعد هذه الحرب العالمية الثالثة اللعينة التي أصابت بلادنا في صميمها ،وأردت مشاغلها ومنشآتها الصناعية خرابا، كما وهجّرت كوادرها الفنية وأبعدتهم، نحن نرى لزاما علينا ،أن نعود لننطلق من جديد في عملية التعليم المهني وإعادة إنشاء مدرسة صناعية حديثة ، تؤهل أجيالنا الصاعدة لمعركة مقبلة تنتظرهم، ألا وهي إعادة بناء ما تهدم وإصلاح ما تعطل وتطوير ما بقي قائما، لكي ينمو الاقتصاد الوطني، وتعود حلب لتكون الحاضرة المتألقة للصناعة والابتكار. ولذلك ، وبالاتكال على الله والاعتماد على تفهّم ودعم رئيس بلادنا المقدام وقائدها الواعي الحكيم، عقدنا العزم على الانطلاق بشروع مدرسة صناعية حديثة كما فعل في الماضي المطران أيسيدوروس والسيدة ماتيلدا سالم، ونحن سوف نتوجّه قريبا إلى رئاسة جمعية الآباء الساليزيين في روما للبحث في إمكانية العودة إلى التعاون في هذا المجال ، وللانطلاق بمدرسة صناعية جديدة وحديثة تلائم احتياجات الصناعة السورية في أيامنا الحاضرة. ونحن ، إذ نتطلع إلى هذه القفزة النوعية في المعرفة الصناعية والتقانة المهنية، نطلب إلى الرب الإله أن يوفقنا في سعينا ويحقق آمالنا في تقدم بلادنا وازدهارها.

9 شباط 2020

                                +المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى