كلمة الراعي

الوطن أمٌّ، والأم لا تناقش

هذا ما أوصانا به المثلث الرحمة المطران ناوفيطوس ادلبي عام 1993 في احتفالية الذكرى الخامسة والعشرين لتسلمه زمام رئاسة الأبرشية إذ قال:” أريد أن استودعكم رسالتي التي كانت قبل كل شيء في حب الوطن. أنا من الناس الذين يفخرون بوطنهم ويحبونه. لست أجهل الصعوبات والهموم والمشاكل، لكنني أحببت هذا البلد بالرغم من كل شيء. قد لا تكون أمي أجمل النساء، ولا أذكى النساء، لكنها أمي، الأم لا تُناقش، والوطن أمٌّ ولا يناقش”.

ونحن اليوم وفي الذكرى الخامسة والعشرين لرقاد هذا الحبر الجليل، إذ نتحسّر على فقدانه ونتأسف لغيابه، لا يسعنا إلا أن نحمد الله الذي كان قد أرسله إلينا راعياً ونشكر فقيدنا الغالي على عطاءاته الكثيرة التي لا حصر لها وعلى خدمته السخية المخلصة للأبرشية ولا نسهو عن الإرث الوافر والثمين الذي تركه فأغنى به الكنيسة العزيزة ورفع ثقافة المجتمع وكرّم الوطن الحبيب. وإن وصيته شبه الأخيرة بحب الوطن، هي التوصية التي نحتاج إليها في هذه الأيام العصيبة التي تمرّ بها بلادنا والتي قد تنسينا أن الوطن هو كالأم، وان لا جدل في محبتنا له ولا نقاش.

ها نحن جئنا اليوم لنصلي إراحة لنفس المطران ناوفيطوس، طيب الله ثراه ونستذكر مآثره وهو الذي خدم أبرشيتنا المباركة بإخلاص وسخاء، مقدما لأبنائها المحبوبين كل ما في قلبه الكبير من عطفٍ ومحبةٍ وما في ذهنه النيّر من فكرٍ ومعرفة وما في بدنه الضعيف من قدرة وعزيمة، استمدها من إيمانه بالرب الذي يُقوي ضعفنا بنعمته، كما جاء في رسالة، كتبها لمناسبة الذكرى العاشرة لاستلامه زمام أبرشية حلب، في السابع من أيار سنة 1978، حيث قال: “نحن ندرك حق الإدراك ما تنطوي عليه الوظائف الكنسية في أيامنا من مسؤوليات وصعوبات، وقبلنا هذه المسؤولية الجديدة بكل بساطة، واثقين بنعمة الله الذي قال: “إن قوتي في الضعف تكمل” ( 2 قو 12/9) فتوكلنا إذاً عليه واتخذنا لنا شعاراً آية الكتاب المقدس ” الرب قوتي” (مز 28/7)”.

لقد أمضى المطران ادلبي على رأس الأبرشية أكثر من ربع قرن، قدّم خلالها للكنيسة من فكره النّير وجهده المستمر الكمَّ الكثير، حتى غدت ولايته المديدة وكأنها عهد من عهود الدهر، تركت بصماتها المميزة على صفحات تاريخ الطائفة إلى ما شاء الله. انجازاته كثيرة لا تحصى، ولو كان المكان يسمح بذلك لتوسعنا في الحديث واستفضنا في التعداد، لأننا نستطيع أن نقول الكثير عن مآثر المثلث الرحمة إبّان حياته الرسولية المديدة. فهو الكاتب والمؤلف، والواعظ والمرشد، والراعي والقائد، والباني والمؤسّس، والأب الحنون، والمعطي العطوف. وكل هذا البذل والسخاء استمده من حب عميق للكنيسة وقربٍ وتواصلٍ مع المسيح المعلم الإلهي رب العمل وسيد الكرم، فجعل الخدمة والعطاء في حياته الكهنوتية فوق كل اعتبار، على مثال السيد الذي أعطى أحباءه كل لحظة من لحظات حياته وأفنى ذاته حتى أخر قطرة من دمه، نزفها على الصليب حباً بنا.

انطلق المطران ادلبي في مسارٍ مضى فيه مثابراً حتى النهاية فغدا نهجاً لحياته على الأرض ومسلكاً للمؤمنين كافة، وقد لخصه في ثلاث نقاط يمكن أن نعتبرها برنامجاً لحياة عاشها بإخلاص، ولعمل حقّقه بعزم وسخاء. وهذه النقاط هي: محبة للوطن تامة وبدون انتقاص، ومحبة جميع الناس بدون انتقاء أو تمييز، ومحبة الفقراء والمحتاجين بدون حدود أو استثناء.

في الختام، وبصفتي مطران حلب، أود أن أعبّر باسم رعايا الأبرشية عن عرفان الطائفة للمثلث الرحمة المتروبوليت ناوفيطوس إدلبي على عطاءاته الكثيرة للأبرشية. والحق يقال إنه تركها لنا زاهرة مشرقة ومزدانة بإنجازات لافتة مجدية، مما يسّر لي مهامي الرسولية عند خلافتي له على كرسي الأبرشية. وإن شكرت فلن أنسى أن أشكره دائماً وأبداً على النعمة العظيمة، نعمة الكهنوت، التي نلتها عن يده لخمسين سنة خلت، مع بداية ولايته عام 1968، يوم رسمني كاهنا لخدمة الكنيسة المقدسة. أما اليوم وأنا أستذكر هذا الحبر الجليل والراعي الصالح الذي له علي الكثير، يعود إلى خاطري الكمّ الوافر من الحسنات التي قدمها لي بمحبة وسخاء، فهو الذي رافقني بنصحه يوما بعد يوم، وهو الذي وجّه خطاي منذ بدايات مسيرتي الكهنوتية، وهو الذي درّبني على خدمة الأكثر حاجة يوم أوكل إلي العناية برعية جبل السيدة والاهتمام بنشر الكلمة يوم سلمني إدارة مجلة الطائفة، وهو الذي يسّر لي التعمّق في دراسة اللاهوت والتخصّص في علم الآداب والشؤون الاجتماعية يوم اوفدني إلى روما، وهو الذي انتدبني لخدمة الطائفة جمعاء في مجالات شتى، فلازمت المثلث الرحمة البطريرك مكسيموس الخامس، عقدين من الزمن وتعلمت منه الكثير! وكل هذا بفضل أبي والمحسن إلي، المثلث الرحمة المطران الحبيب ناوفيطوس، فشكرا له ورحمة الرب عليه، هو من كان سيدي ورئيسي وولي نعمتي وسلفي الفاضل. أسكنه الله العلي القدير فسيح جنانه وكرّم ذكره الطيب إلى جيل وجيل.

حلب في 12 حزيران 2020                                 + المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى