حلب الحبيبة
بمناسبة اليوبيل الفضي للسيامة الأسقفية لراعي الأبرشية المطران يوحنا جنبرت نضع بين أيديكم الخطاب الذي تلاه يوم التنصيب:
أنا سعيد جداً بأن أعود إلى المدينة التي شهِدتْ مولدي، ورَعَت فُتُوَتي وأذْكَتْ في فؤادي حبّاً كبيراً لهذا الوطن الخالد ولشعبه العزيز المعطاء. أعود إلى هذه المدينة العريقة حلب، ونحن على مشارف الألف الثالث للميلاد، وأتطلّع إلى عمرانها بنشوة وانشراح، ويغمرني وأنا في طريقي إليكم سرورٌ لا يوصف، وغبطة لاتُحد. فتحيتي إلى حلب الحبيبة أم التاريخ والحضارة. تحيتي إلى حلب حاضنة المسيحيين منذ مولد الكنيسة ونشأتها. تحيتي إليها مدينة أسلافي العظام مطارنة هذه الأبرشية. تحيتي إلى حلب مدينة آبائي وأجدادي، تلك التي في كل ذرّة من ترابها قصيدة، لا بل ملحمة، تَروي حياة الجماعات والأفراد ممن عايشوها وخدموها وممن شيّدوا صروحها وتفانوا في الحفاظ على مكاسبها الإنسانية والروحية والحضارية. تحيتي إلى الذين استشهدوا في الدفاع عن أسوارها وسفكوا الدماء ثمناً للكرامة والعزّة والحُرِيّة. تحيتي إلى حلب مدينة أُخوتي وأصدقائي وأحبّائي .
أبنائي الأحباء، أشعُر وأنا واقف أمامكم، وكأنّي واحد منكم، واحد من أبناء هذه الأمة العظيمة، واحد من هؤلاء الذين قُدِّر لهم كتابة تاريخ المدينة الخالدة حلب، عرين الحضارة والرقيّ. ولذلك، ومنذ اللحظة الأُولى، وأنا أشاهد جماهير شعبها المحتشِدة لإستقبالي، وأسمع أجراس كنائِسها تقرع، شعَرت وكأنّها تدعوني للصلاة، وتناديني كي أضع ذاتي بطاقاتها وإمكاناتها كاملة في خدمة هذا الشعب العزيز وهذه المدينة الغالية. وفي خِضَّم هذا السيل من المشاعر، وهذه النشوة التي تَغمُر كياني، أترُك العنانَ لقلبي ولكلِّ المحبّة التي يكنّها لكم، والعطف الذي يحفظه لأبنائكم ومرضاكم والمعذَّبين بينكم. وإنني أتَطَلَّع إلى مساعدتكم وإلى العمل معكم على تحديث هذه الكنيسة وتطوير هذا المجتمع.
تطلعاتي ومقاصدي تَسْتمدُّ من ماضينا المناقبية والعنفوان، ومن حاضِرنا الوسيلة والعون، ومن إشعاعات فجر الألف الثالث النور الذي يُوَجّه خطانا في عملية بناء مجتمع جديد ، قادر على مواكبة عصر لا مكان فيه للخنوع ولا للجهل ولا للتعصّب. وأنا إذ ألحظ ُ هذا الأمر، أقول لكم إنَّ منطلقاتي في العمل سوف تتحاشى الغوص في النظريات البعيدة عن واقعكم المعيوش. واقعكم هذا سيكون هو المنطلق ونقطة البدء في كلّ بحث أو تخطيط أو تصميم. أنا لست ممّن يؤمنون بالحلول المستوردة، ولا بالنظريات الفارغة، ولا بالعمل غير المجدي، وإن كنتُ من المؤمنين بالعلم والتكنولوجيا الحديثة والمعلوماتية منفذاً وحيداً لمن يرومُ ولوج حلبة الألف الثالث بجهوزيَّة الإنسان الناضج المميّز.
+ المطران يوحنا جنبرت
من خطاب التنصيب 24 أيلول 1995