كلمة الراعي

حياتنا الجديدة

غالبا ما يسهو بعضنا عن أهمية ما جرى في ذلك اليوم المبارك، يوم العنصرة المجيد، الذي حقق فيه الرب المخلص وعده لتلاميذه بأن لا يتركهم يتامى، وبأن يرسل إليهم روح القوة والحق المنبثق من الآب والابن، لكي يحل فيهم ويحييهم ويبقى مع كنيسته حاضرا ومؤيداً إلى الأبد. نعم يا أيها الأبناء الأحباء هذا يوم عظيم لكل مؤمن بالمسيح وهو حدث مفصلي في تاريخ الحياة البشرية، حيث عادت اللحمة بين الخالق والمخلوق، وتعافت الخليقة لتقوم وتعود إلى كنف عناية الله الأبوية على حسب مشيئته منذ الخلق. ونحن لا نستطيع أن نستوعب شيئا من معاني سر التجسد والفداء بدون وحي من الروح، كما أننا لا نستطيع أن نتفهم سر النعمة التي تقدس الكنيسة وتحييها، بدون الوعي لحضور الروح القدس فيها والذي بواسطته تسري الحياة الإلهية في حياة الإنسان لتنعشها.

فلنفرح ونتهلل يا إخوتي الأعزاء في هذا اليوم السعيد، لأنه يوم ولادة كل منا نحن المسيحيين لحياة جديدة. فبحضور الروح الساكن فينا، أصبحت حياتنا بواسطته على علاقة وثيقة مع الله القادر على كل شيء، هو يشدّد عزائمنا كما شدّد عزائم الرسل، وهو يعلمنا كما علم الرسل أيضا، ويؤهلنا لفهم مضامين تعليم الكنيسة المؤتمنة على البشارة والعاملة بوحيه والمصونة بنعمته. إن دور الروح القدس في حياة الكنيسة هو بطبيعة الحال، دور عضوي لا غنى عنه ولا بديل، فمنه معرفة الحقيقة والإيمان، ومنه الوعي لواقعنا المؤلم عند الخطأ والتوبة الصادقة، عند المعصية والمغفرة ،عند الندم، ومنه حياة النعمة والقداسة، وبه العبادة الحقيقية ومرضاة الله، كما قال يسوع للسامرية، ومنه أيضا الثبات في مواجهة الصعاب والجرأة يوم الجهاد، ومنه العزم والإقدام والفرح وكل طمأنينة وسلام. فهو المعلم والمرشد إلى المسيح، وهو مبعث التجدد في كل واحد منا، وموقد دفء المحبة في القلوب، ومولع مصابيح الصدق والصلاح والجودة في التعامل والألفة في الحياة بين الناس. فالروح القدس كما قال لنا الرب يسوع في إنجيل يوحنا الرسول: “هو المعزي وروح الحق، والمرشد إلى الحقيقة كلها.” (يو 16: 13).

واليوم أكثر من أي يوم مضى، العالم في حيرة من أمره ،ينتظر اعتلان الحقيقة التي تحرّره، ونحن المؤمنين بحاجة إلى هذا الروح الذي يعيد إلينا الوعي والثقة بقدرة الله الساكن فينا، وهو الذي يوضّح لنا معالم طريقنا إلى الخلاص، في الحياة التي لنا في المسيح يسوع. وهي حياة مستجدة، تحفظ فرادة شخصية كل واحد منا وتصون قدسية حرية انتمائه. حياة فيها عزم وعنفوان وفيها وعي لمعنى الوجود وثقة في الآتي واطمئنان. حياة فيها مبادئ خلقية ناصعة وقناعات واضحة وقيم إنسانية راقية تسمو على خزعبلات مجتمع هذا الدهر، التائه في ديجور ظلام الجهل وعتمة الأنانية الخانقة، والمتخبط في أمواج أوبئة وبلايا جانحة وحروب عبثية وفتن طاحنة، من شأنها أن تنحدر بالإنسان المعاصر إلى الحضيض وتنتزع منه كرامته وكل مقتناه.

أمام الذي يجري في أيامنا هذه من تدهور فكري وانحطاط خُلُقي وتصدّع مجتمعي خطير، تعود الكنيسة لتذكّر المؤمنين بالمعزي، الذي أعطانا الرب في يوم العنصرة، ليقف إلى جانبنا ويقَوي عزائمنا. كما وهي تدعو الجماعات المسيحية المنتشرة حول العالم لإقامة صلوات ورتب خاصة، تلتجئ فيها إلى الروح القدس، مصدر كل عزم وخير، طالبة تدخّله ومؤازرته في التصدي للشر، وملتمسة عونه في تأدية واجباتها الرعائية والخدمية على الشكل الأمثل وبما يرضي الله ويسعف المحتاجين إلى نعمته تعالى. ونحن في هذا البلد العزيز، لا يسعنا في هذا اليوم المبارك إلا أن نتوجّه إليه راجين السلام في سورية العزيزة، وطالبين توعيتنا وإنارة عقولنا لكي نفهم سر محبة المسيح، التي فيها التلاقي والوئام، وفيها معاني البذل والعطاء، وفيها خصوصا مصادر غنى مصون لا يضمحل وينابيع هناء في عيشنا وفرحٌ أصيلٌ في قلوبنا ثابت لا ينتزع.

حلب 30 أيار 2020                     

 + المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى