كلمة الراعي

سألت جَدّي

هذه رسالة من سيدة جزائرية، تسلَّمها ثم نقلها إلينا مشكوراً أحد الأقرباء ممن يعرفون مدى تعلقي واعتزازي بمدينتي الحبيبة حلب. وهذا نصّها:

“أنا من الجزائر وسأحمل لإخوتي في سورية الشقيقة معلومة أخذتها من جَدّي…

يقال في اللهجة الجزائرية عن الشخص الذي تَطوّر أو أصبح متمدناً أو تغيّر للأفضل (فلان تَحَلّب)، أو يقولون عن شخص تَطوّر ( أراك تَحَلّبْتَ) ، وهذه يعرفها كل أهل الجزائر وبعض شعوب المغرب العربي.

سألت جَدّ زوجي وهو عجوز جزائري عن أصل الكلمة فقال لي: يا ابنتي ،منذ القِدَم كان معروف عن أهل حلب ،أنّهم أكثر العرب تطوّراً وتحضّراً وتمدّناً، فعندما كانوا يرون شخصاً تحضّر وأصبح راقياً يقولون ” فلان تحلّبَ “أي أصبح مثل أهل حلب.

نعم فلان وعِلْتان أصبح مثل أهل حلب، وما أدراك ما وصل إليه، عبر تاريخ مدينته المديد والعريق، ابنُ حلب من العلم والرقي والكِياسة. فمنذ القِدَم وعبر تاريخها الطويل، تألّقت مدينته لتكون محط أنظار الباحثين والمحبين وبغية العابثين والطامعين. فَمَنْ كان يبحث عن العلم والمعرفة كانت حلب قِبْلَته، ومَن كان يبحث عن الرزق الحلال والبحبوحة والثروة كان يقصدها ، ومَن كان يروم عيشاً كريماً آمناً كان يأتي إليها، لأنَّ حلب كانت في ما مضى حاضرة الشرق والغرب. أتى إليها أهل الغرب منذ القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، وأسسوا فيها شركات تجارية كبرى تواصلت مع بلاد شرق آسيا،ً ووسّعوا أسواقها وخاناتها، وافتتحوا فيها القنصليات وبنوا المدارس، فتعلّم أبناؤها القراءة والكتابة وأتقنوا العربية وسائر اللغات ، ونشطت فيها حركة فكرية وأدبية وفنية قَلَّ نظيرها، حركة نَهْضَوية جعلت من حلب مدينة تحتضن عدداً لا يُحصى من الأدباء والمفكرين والفنانين والحِرَفيين الماهرين، منهم من نَظَمَ الشعر ودبَّج المقالات ، ومنهم مَن ترجم أمّهات الكتب إلى اللغة العربية ، ومنهم من تميَّز في فن العمارة ،ومنهم من برع في رسم الأيقونات الكنسية واللوحات العصرية الرائعة ،ومنهم من أتقن صناعة الصابون وحياكة النسيج وتطريز أجمل الحُلل والملابس الشاهانية ، ومنهم من امتاز في فن الطبخ وصناعة الحَلْوى الحلبية الذائعة الصيت ، ومنهم ومنهم … ولو تابعنا التعداد لضاق بنا الوقت وطال المقال.

لن نتكلم عمّا كانت عليه حلب قبل التاريخ ولا في عهد الرومانيين ولا في عصور الخلافة الإسلامية، كون الحديث عن تلك الحقبات يتطلّب تسطير صفحات عديدة وكتب ومجلدات، وإنما نودُ في هذا المقام أن نشير باختصار إلى ما كانت عليه مدينتنا في العصور الحديثة وما قدمته إلى منطقتنا العربية، مساهمة في نهضتها من الانحطاط الذي طغى عليها قروناً طويلة من الزمن.

إنّ مدينة حلب كانت ثاني مدن السلطنة العثمانية أهمية حتى أواخر القرن التاسع عشر، حيث أضعف افتتاح قناة السويس للملاحة، معبر الغرب الجديد نحو البلاد الآسيوية، مركزَ حلب في المبادلات التجارية في تلك الأزمان. غير أن ما كانت قد وصلت إليه المدينة من رقي طيلة ثلاثة قرون من الازدهار صان عِزّتها وأعطاها مكانة قلّ نظيرها بين سائر مدن المنطقة. ولا غرابة في ما قاله في القرن الثامن عشر الرحالة “فولني” متكلما عمّا شاهده في حلب: “إنَّ الحلبيين يُعتبَرون بحق، مسلميهم ومسيحييِّهم، أكثرَ سكان تركيا ثقافة، ولا يتمتع الأوروبيون في أي مكان بمثل ما يتمتعون به هناك من حرية واعتبار” علما بأنَّ حلب احتضنت المسلمين واليهود والمسيحيين بطوائفهم المتعددة في بوتقة مجتمعية متآلفة، وكان لهذا التآلف، الذي أعطى الأمن والأمان للجميع، الأثر الأكبر في نمو المدينة وتقدّمها. فمنذ القرن السادس عشر كان لإيطاليا ثم للمملكة الفرنسية قنصلية في حلب، تبعتها بريطانيا ودول أوروبية أخرى في افتتاح قنصليات لها في المدينة، حتى غدت عاصمة للمنطقة يتواجد فيها تمثيل دبلوماسي وتجاري منقطع النظير ما كنت تجده في تلك الحقبة، لا في بيروت ولا في عمّان أو دمشق بالذات.

وبطبيعة الحال، كان لتواجد التجار الأجانب دور بالغ الأهمية في ازدهار المدينة اقتصاديا وعلميا وثقافيا، مما جعلها في طليعة مدن السلطنة. اغتنى تجارها فبنوا أجمل القصور والكنائس، تعلّم أبناؤها وأتقنوا لغات الدنيا في المدارس التي افتتحها الرهبان الذين وفدوا من أوروبا لخدمة جالياتهم، حيث تواجد في المدينة، فضلا عن الكهنة والرهبان المحليين، آباءٌ تابعون للرهبانيات الفرنسيسكانية واليسوعية والكبوشية والكرملية، وكلّهم ،وبالتعاون مع رعاة الكنائس المحلية ،اهتمّوا جدّيا بشكل أو بأخر، بتعليم الناشئة منذ القرن الثامن عشر، مما أعطى السكان تفوقا علميا وجعل من حلب منارة ومركز إشعاع للمنطقة بِرُمّتها. فلا عجب في أن يقال عن حلب أنها كانت منطلقا للنهضة العربية، لاسيما وأنها أرفدتها بكوكبة من الأدباء والمفكرين، وقدمت لها الطباعة العربية والكتب والجرائد والنشرات، كما وأسست رهبانيات في لبنان كان لها دور فعّال في نمو البلد الشقيق وتقدمه. ومعروف أن نابليون بونابرت عندما دخل مصر، لم يجد في غير حلب أدباء وكَتَبَة وتراجمة، على المستوى اللائق، لمساعدته في الإعلام وإدارة الشؤون العامة في البلاد ، فلا غرابة في أن يقول جَدُّ زوج الصديقة الجزائرية: “إنّ أهل حلب هم أكثر العرب تطوراً وتحضراً وتمدناً…

فيا أيها الأهالي الأحباء والأصدقاء الأكارم، قوموا لِنُعِيد إلى حلب العظيمة ألقها وإلى مدينتنا الحبيبة عِزّتها .

     حلب في 23 أيار 2020                                  +المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى