كلمة الراعي

شارة النُصرة والسلام

في مطلع القرن الرابع، حدث أن، والدة قسطنطين الكبير القديسة هيلانة، وجدتْ مدفونةً بالقرب من الجلجلة صلباناً ثلاثة، واحد منها حمل المسيح، يوم عُلِّق على خشبته. ويروي لنا التاريخ أنه قد اهتُدِيَ إلى تمييز صليب المخلص بفضل معجزة شفاء تحققت بملامسة الصليب المقدس دون الآخرين. وعمّ في ذلك اليوم فرح كبير في الكنيسة جمعاء، وانتقل الخبر العظيم إلى أصقاع الدنيا بنيران أضرمت على قمم الجبال، معلنة الفرحة العظمى وقد عمّت المسكونة كلها.

فلا غرابة في أن تكون لعيد الصليب الذي تحتفل به الكنيسة في ١٤ أيلول  من كل عام، مكانة مرموقة في سلسلة أعياد الكنيسة، شرقاً وغرباً. فالصليب يتموضع في محور سرّ الخلاص، فهو واسطة المصالحة والانتصار على الموت والقيامة في آن واحد. كما أنه رمز مجد المسيح، الذي جعل من أداة الموت واسطة حياة ومن علامة العار والمهانة رمز عزة وانتصار.

لا يخفى على كائن مَن كان أنّ الوثنيين واليهود وغيرهم، ممن لم يعرفوا المسيح ليدركوا عمق محبته للبشر، عيّروا المسيحيين في ما مضى واستهزؤوا بهم محقّرين صليبهم. كما أنّ عدداً من أهل عصرنا يرَون فيه مذلةً وخنوعاً، يبعد الإنسان عن سهولة عيشه ورتابتها ويذلّ كرامته. فلا نستغرب إذن إن رأينا بعضنا يخجل من إبراز الصليب ويتحاشى إظهاره أمام الغرباء، وكأنه عار عليه أو مهانة، لاسيما وأن عقلية العصر ترفض المعاناة والتضحية، ساعية إلى حياة سهلة لا تعرف لا البذل ولا احتمال المشقات ولا العطاء السخي في سبيل الآخرين. بينما المؤمن الصادق الذي يحب المسيح، يعرف تمام المعرفة أنّ الصليب علامة  تشير إلى المحبة الخالصة التي لا تقف عند حد، وإلى العنفوان الذي يتحدّى الأنانية ويجعل حامله عنوان صدق في المعاملة وتفانٍ في الخدمة وصموداً بوجه الفساد والكذب والنفاق.

ولا شك أنّ عالمنا المعاصر الغارق في الرخاء والمتناسي أنّ واقع الحياة البشرية هو على مرّ الأيام والسنين، عرضة لنوائب الدهر والنكبات وملطخ بالمصائب والموبقات ومحفوف بالآلام والأحزان، كما يقول المثل الشعبي المعروف: “يومٌ لك ويومٌ عليك”، شاء من شاء وأبى من أبى. هذا هو واقعنا الحياتي المؤلم في هذه الدنيا، مسيحيين كنا أو غير مسيحيين، مؤمنين بالصليب ومعانيه المحيية أو غير مؤمنين، كلنا سواسية أمام هذا الواقع المزري. فبعضنا تطلّع إلى المعلم الإلهي خالق الإنسان وفهم حين رآه مصلوباً أنّ احتمال الألم والعذاب يأخذ معناه ويجد مبرراً له، حين يزدان بالمحبة الفادية: محبة المسيح، الذي أتى إلينا مواكباً ومخلصاً، ومحبة القريب، رفيق الطريق على دروب هذه الحياة القاسية، أما بعضنا الآخر فلم يشأ أن ينظر فيرى، وبقي وحيداً أمام نوائب دهره، معزولاً وحائراً في أمره، متأففاً من مصيره ومعاناته إلى حدّ اليأس والقنوط.

إنك ترى المؤمن بسّاماً في ضيقه، وأما غير المؤمن فغاضب حاقد على الدنيا ومن فيها، تائه في ظلمات حياة عبثية لا بصيص نور فيها ولا أمل. وهنا نستطيع أن نقول لمن يريد أن يسمع أنّ الصليب نور وهداية لمن آمن واهتدى، وأنه واسطة سكينة وخلاص، وهو رمز عزم وانتصار على نوائب الدهر وأذى الأشرار. وهو عز ومكان افتخار، لكل مؤمن بالذي حمل صليبه متألماً وضحّى متحمّلاً العذاب في سبيل أحبائه من بني البشر. ولنصلِّ مع الكنيسة منشدين كما في صلاة الغروب:

” إفرح يا صليب الرَب الكُلّي الشرف، الذي به انحلّ جنس البشر من اللعنة، والذي هو إشارة الفرح وقاهر الأعداء برفعه. يا عون المسيحيين، وعزّ الملوك، وقوة الصادقين، وبهاء الكهنة، الذي يرمّم فينقذ من المصائب، وعصا قوة للرعية وسلاح سلام للعالم”.

                                                                    + المطران يوحنا جنبرت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى