في الذكرى المائة والسادسة لمذبحة الأرمن
إنَّ هذا اليوم العزيز على قلوب إخوتنا أبناء الطائفة الأرمنية، الذي يعود بذاكرتهم إلى يوم الرابع والعشرين من عام ١٩١٥ وفيه بدأ اضطهاد غير مسبوق اقترفه العثمانيون تجاه الشعب الأرمني الذي كان مقيم آمنا في دياره، في المناطق الشرقية من السلطنة وحيث راح ضحيته أكثر من مليون ونصف شهيد إضافة إلى مئات آلاف النازحين والمهجرين، قاوموا الاضطهاد ببسالة ولم يقبلوا أن ينصاعوا لرغائب قلوب المستعمرين الأتراك الحاقدة والمملوءة بغضاً وقساوة، فهم بعد أن تسلطوا على البلاد صمّموا على قمع العباد وإزلال كل من لا يقبل أن يتخلى عن أرضه وتاريخه وتراث أجداده وثقافته ودينه وهويته. فكان أن حصلت المذبحة الأليمة التي أدمت قلوب الملايين من أبناء هذا الشعب المناضل وأبعدت عن بلادهم أعدادا لا تحصى من الأسر الأرمنية التي انتشرت في أرجاء المسكونة وفي مدن العالم وفي طليعتهم مدينة حلب الحضارة والرقي، التي فتحت أبوابها وشرعتها لتستقبل عشرات ألاف العائلات التي استطاعت أن تنجو من البطش والإرهاب الذي كان يتهددها في المناطق القريبة من شمال سورية.
منذ مطلع القرن العشرين استوطن جمهور كبير من الأرمن في عدد من المناطق السورية وقد كان عدد الذين اختاروا الاستيطان في مدينة حلب هو الأكبر، حيث قدر بعض الباحثين عددهم آنذاك بقرابة المائة ألف لاجئ، عدد كبير منهم اختار أن يبقى في هذه المدينة فتجذر ونمى وأسس ونجح نجاحا باهراً، ومنهم من غادرها إلى مدن أخرى شرقا وغربا وفي طليعتها العاصمة اللبنانية بيروت. لقد تأقلم الأرمن في حلب وتبنوا تطلعات أبنائها وواكبوا سعيهم نحو التقدم بكل همة وإخلاص ونشاط، مما جعلهم في طليعة الصناعيين والعاملين الذين كان لهم اليد الطولى في التقدم الصناعي المذهل الذي أحرزته هذه المدينة الذبيحة، وقد تحقق هذا النمو اللافت في المدينة، إبان النصف الثاني من القرن ألماضي، فوضع حلب في طليعة المدن الصناعية في منطقة الشرق الأدنى.
لقد فاخر الأخوة الأرمن مع سائر أبناء مدينتنا، سنة بعد سنة، معتزين بالمكانة التي احتلتها حلب في المنطقة، وضاعفوا فيها استثماراتهم وأنشطتهم الاقتصادية، واثقين من المستقبل الواعد المنتظر، والذي كان من شأنه إن حصل أن يضع المدينة في قمة التفوق والازدهار. لكن ولسوء الطالع، حلت ببلادنا الحبيبة الكارثة، وأتانا في العقد الثاني من هذا القرن الجديد، ربيع عربي مزعوم، ربيع التآمر على سورية والشر، ليضرب مقدرات الشعب، معتديا على المواطنين وممتلكاتهم وليهدم مقومات عيشه بسرقة المصانع وبحرق المحاصيل الزراعية وتهديم المدارس والمشافي وبتخريب بيوت الناس. فكان بالنتيجة أن غادر عدد كبير من أبناء المدينة وبينهم أكثر من نصف المواطنين الأخوة الأرمن، بعد أن تهددهم مجدداً، الغازي عينه الذي كان قد نكل بأسلافهم لمئة سنة خلت. وإن هذه الهجرة هي كارثة ثانية وقعت على مدينتنا الحبيبة بعد أن هدم في السنوات القليلة الماضية معالمها أجرام المعتدين.
لقد غادرنا، مع من غادر، عدد كبير من الفنيين الأرمن البارعين والمهنيين المميزين والصناعيين المقدامين، وحرموا مدينتهم من عناصر مؤهلة بارعة نشيطة يحتاج إليها الوطن في هذه المرحلة المفصلية الدقيقة من تاريخه أيما احتياج. ونحن إذ نتمنى أن نرى الذين غادروا حلب من أبناء الطائفة الأرمنية العزيزة يعودون ليضموا أيديهم إلى أيادي العاملين على إعادة بناء الوطن الحبيب، لا يسعنا إلا أن نحييهم داعين لهم بالتوفيق والنجاح أينما حلوا، وشاكرين إياهم على كل ما كانوا قد قدموه سابقا لمدينتنا التي تحبهم وتقدر عطاءاتهم كل التقدير.
ولا يسعنا في هذا اليوم الأليم إلا أن نقدم لإخوتنا الأرمن التعازي على الذين فقدوهم من أسلافهم في أولى وأبشع مجازر القرن العشرين، مذكرين إياهم بأن هؤلاء الأكارم قد استشهدوا وأن الشهداء هم أنبل أهل الدنيا، وأنهم ضحوا وماتوا إخلاصا لإيمانهم وفي سبيل كنيستهم الأرمنية الحبيبة. وفي هذا تعزية كبرى وكل الرجاء!
حلب في 24 نيسان 2021 +المطران يوحنا جنبرت