لست ادري ماذا أقول في هذا الحفل الجميل الذي أصر الكهنة الأحباء والإخوة الأعزاء الناشطين في الأبرشية على إقامته رغما عني، احتفاء بالذكرى الخامسة والعشرين لارتقائي السدة الأسقفية وتسلمي زمام أمور أبرشية حلب العزيزة.
ألا ترك العنان لشجيتي لأعبر بإسهاب عما يجيش في قلبي من عواطف محبة وامتنان لهم ولكل الأصدقاء الأكارم الحاضرين وعلى رأسهم غبطة أبينا البطريرك، الذي أبى إلا أن يأتي خصيصا إلى حلب النائية، متكبدا عناء السفر، ليكرمني بتواجده ويشرف الأبرشية برعايته لهذا الاحتفال الذي إزدان بحضوره الكريم وتألق!.
أما بعد فقد بدر إلى خاطري أن استعيد في هذه اللحظة من مسار حياتي، ذكرى وصولي لخمسة وعشرين سنة خلت، إلى هذه المدينة العامرة، فأكرر ما قلته في حينه، حيث توجهت في خطابي الأول إلى أبناء الرعية المحبوبين بالتحية، معبراً عن مشاعري الدفينة فقلت:” تحيتي إلى حلب الحبيبة أم التاريخ والحضارة، تحيتي إلى حلب حاضنة المسيحيين منذ مولد الكنيسة ونشأتها. تحيتي إليها مدينة أبائي، تلك التي في كل ذرة من أديمها قصيدة، وفي كل حفنة من ترابها ملحمة تروي حياة جماعات أسلافنا والأفراد البارعين بينهم، ممن عايشوها وخدموها ومن الذين شيدوا صروحها وتفانوا في الحفاظ عليها.
العواطف التي كانت تجيش في قلبي عند دخولي هذه المدينة العزيزة الصامدة، هي عينها التي اشعر بها في هذه الساعة وهي عينها التي شعرت بها يوما بعد يوم وطيلة السنوات التي قضيتها حصينا وآمنا في رحاب أسوار محبة أبنائها الاكارم وعزة مروأتهم وسخاء أفضالهم، مما كان يشدني، أكثر فأكثر، إلى التعلق بهذه المدينة التي أحببت وهي العريقة في ماضيها والزاهرة في حاضرها والواعدة في مستقبلها.
ولربما كان هذا هو السبب الذي دفعني إلى التضحية بالبحوث العلمية التي كانت تروق لي وتستهويني، لتكريس وقتي وطاقاتي للعمل على تأمين ما يحتاج إليه شعبي من خدمات ضرورية ومنشآت رعائية وتعليمية. فقدمت الاعتذار للإباء اليسوعيين الاكارم عن متابعتي أعمال الإدارة في إصدار سلسلة” التراث العربي المسيحي” التي كانت تؤول إلي إثر وفاة سلفي الطيب الذكر، المثلث الرحمة المطران الفاضل ناوفيطوس ادلبي، طاب ذكره، وكلي ثقة ويقين بأن اليسوعيين الذين يكرسون حياتهم للبحث والتأليف سيتابعون المهمة بنجاح وعلى أكمل وجه، مبينا للأب العلامة سمير خليل آنذاك، أنني اشعر بضرورة تكريس طاقاتي كلها للأبرشية العزيزة التي أرادني الرب خادما لها.
وعندما التفت الآن لأنظر إلى الماضي من الأيام، فإنني أرى أن تعاطفي مع أفراد رعيتي ومحبتي لكل واحد من المؤمنين كان دافعا فعالا وحافزا، جعلني أنسى شؤوني الخاصة لأبادر مسرورا، إلى التعاون مع عدد كبير من أبناء الرعية للعمل، بنعمة الله وعنايته، على تدعيم بناء صرح الأبرشية وتعزيز قدراتها وتوطيد أركان مجتمعنا الغالي ومقومته الحياتية، محاولا بما تيسر لي من إمكانات، العناية بأجيالنا الصاعدة وإنعاش القيم العريقة الكامنة في قلوبهم والمهارات المتوارثة السارية في عروقهم والتي تميزهم عن سواهم من أبناء شرقنا العزيز.
والحق يقال إنها هذه هي بالذات المنجزات التي تمنيت أن أرى، أكثر من أي شيء آخر، في المرحلة الحاضرة من حياتي. وأن ما كان ينعش فؤادي على مرور الزمن وما يرطب خاطري اليوم، أكثر بكثير من مشاهدتي هذه المنجزات، هو أنني ورغم المصاعب الجمة التي واجهتني وعقبات لا حصر لها أعترضتني، استطعت وبعون الله ودعم المحسنين الكرام ومساعدة من هم حولي من الناشطين الأفاضل، كهنة وعلمانيين، أن أقدم لأبنائنا كمًّا مما يحتاجون إليه من خدمات تربوية ومعيشية في الظروف القاسية التي مر بها شعبنا في سنوات الحرب المريرة المؤلمة.
لقد دمرت المعارك بيوت الناس، وعانيت مع أبنائنا وتألمت، فهم تعرضوا لخطر الموت وأنا أيضا تعرضت مثلهم لمخاطر متكررة، وهم فقدوا ما حصلوه وبنوه من جنى عمرهم آسفين وأنا بدوري رأيت متألما ما جاهدت لبنائه خلال السنوات الطوال خرابا ودمار. هم وأنا نعاني المعاناة عينها، الأمر الذي زادني شعورا بارتباطي الوثيق بأبناء هذه المدينة وبوحدة حالي معهم، وهو الذي دفعني على العمل في خدمتهم وسهل علي العطاء في سبيلهم، كونهم أخوتي وخلاني الأحبة، هم جزء من كياني، أحزانهم تؤلمني وأفراحهم تحييني.
خمسة وعشرون سنة، قضيتها بين أخوتي الكهنة وأبنائي المؤمنين، انقضت كلها كلمحة بصر وكأنني كنت أرى حلما، فاستيقظت اليوم لأراه وللأسف يذهب كالسراب، ولكنه ولحسن الطالع، ترك وراءه عددا وفيرا من المنجزات المفيدة والذكريات المحببة التي تروي اليوم غليل فؤادي. وأولى تلك الذكريات تأتيني من لقاءاتي مع أخوتي الكهنة المحبوبين، إن إفراديا مع كل واحد منهم أو جماعياً كما بمناسبة الأعياد والاجتماعات الأسبوعية التي كانت تضمنا دون انقطاع، وفي الرياضات السنوية التي كنا نقضيها سوية. ويطيب خاطري أيضا كلما عادت إلى ذهني، لقاءاتي مع أبنائي المؤمنين في مختلف المناسبات الدينية والاجتماعية وفي الأعياد والاحتفالات، حيث كنت اشعر بالرباط الأسري الذي يشدني إليهم ويربطني بكل واحد منهم، فيرتاح قلبي إلى تواجدهم بجواري وتزداد محبتي لهم مما يدفعني إلى المزيد من البذل في سبيلهم والعطاء.
فلا غرابة في أن أكون قد عملت في خدمتهم بارتياح ودون انقطاع. ولذلك كنت تراني لا اهدأ إلا في سكينة أوقات صلاتي التي كنت استمد منها ثباتي في الخدمة وصمودي في الجهاد، وكنت استكين أيضا في أوقات خلودي إلى النوم لإراحة الجسم وتجديد قواي البدنية في هدوء الليل.
أطلق علي بعضهم لقب المطران المعمار وآخرون أبو المشاريع أو الخطيب وغيرهم يقول عني أنني الرجل العنيد الذي لا يكلّ ولا يملّ، ولربما هذا كله يدغدغ ويلفت الانتباه إلي، غير أن هذا لا يعنيني، وبالأحرى أتمنى أن يكشف احدهم سر نشاطي ومعنى عطائي، وسوف أكون ممنونا ومسرورا كل السرور لو أنكم تكرمتم علي وشرفتموني بتعريفي بكلمة واحدة دون سواها وسميتموني ب “الحبيب”، وهو اللقب الذي يطلق على شفيعي القديس يوحنا الرسول، خليل الرب يسوع، قدوتي قدوتي في الحياة ودليل مساري على دروب المعلم. والحق يقال أن كل ما فعلته في زمن خدمتي الكنسية المديدة، وكل ما أنجزته من مشاريع كبيرة أو صغيرة، يجد معناه في محبتي للمسيح وللأبناء الأعزاء الذين تكرم الرب وأوكلني برعايتهم. فإن كنت أصلي فلأجل سلامتهم صليت، وان كنت اكتب وأتكلم فلإرشادهم كتبت وتكلمت، وإن كنت ابني فلهم بنيت، وان كنت أسعى جاهدا فلأجلهم سعيت لأن محبتي لهم كبيرة.
وأنا في هذا اليوم السعيد، إذ اشكر حضوركم حولي، أتوجه إلى أبناء أبرشيتي العزيزة كافة، معبرا عن محبتي لهمم وعن بالغ شكري لولاء عطفهم وداعيا لهم وللحاضرين في هذا الحفل الكريم بالصحة وطول العمر وهناء العيش والسلام.
حلب في الخامس عشر من تشرين الثاني 2020
+ المطران يوحنا جنبرت