نحن لن نيأس
لفتني مؤخراً خطاب للمطران بولس عبد الساتر رئيس أساقفة الموارنة في مدينة بيروت الذبيحة، جاء فيه هذا التصريح الشجاع والباعث على الصمود أمام نوائب هذه الأيام القاهرة. قال سيادته وبالحرف الواحد:
”نحن لن نيأس وكيف نيأس، ومخلصنا هو يسوع المسيح، ”الله معنا“، المنتصر على الشر والموت؟ نحن لن نستسلم، وهدفنا هو خير الإنسان، كل إنسان، وتقديس هذا المشرق؟ نحن لن نرحل من هنا وكيف نرحل، وهذه أرضنا ودماء شهدائنا سقتها وفيها يرقد قديسونا وأحبابنا؟ سنعمل ولن نتعب! سنبقى ولن نرحل! سنستمر ولن نتوقف! لأننا مسيحيو هذا المشرق وعلامات الرجاء والحب فيه!“
هذه الكلمات الرائعة تذكرني بما كان يردّده أباؤنا وأجدادنا عندما يضيق عليهم خناق نوائب الزمن وعثراته، لقد صبروا واحتملوا وضحّوا هم في سبيل بقائنا نحن في هذه الأرض المباركة وهذا الوطن الحبيب. ويروي لنا التاريخ أنهم واجهوا صعوبات جمة ومصائب وأتراح تبعث على الاستسلام لليأس، إلا إنهم شدوا العزيمة ووقفوا واثقين، شعارهم المطبوع في قلوبهم والمحفور على جدران بيوتهم والمخطوط فوق صدور منازلهم منذ مئات السنين: ”المسيح معنا فقفوا“.
لربما، اليوم وأمام ما نعانيه من صعوبات معيشية خانقة، نحن أحوج ما نكون إلى استذكار تضحيات أسلافنا لشحذ وعينا وتقبل التضحية والصمود بثبات في هذه الأرض العزيزة التي خلفها لنا أباؤنا وقد دفعوا في سبيل الحفاظ عليها، أثماناً باهظة من الضيق والحرمان والمعاناة لا حاجة لتعدادها في هذا المكان، كون التاريخ شاهد عليها. لقد صبروا وضحوا واحتملوا فكان لهم في ذلك النجاة والفرج والاستقرار والنجاح.
أما نحن فقد ضحينا في هذه الآونة واحتملنا الأمرين وصبرنا على الضيم السنين الطوال، والحمد لله أننا استطعنا أن نستمر إلى الآن، رغم المعاناة الكبيرة ومخاطر الحرب المريعة والعقوبات القاسية وضيق الحال غير المسبوق الذي يكاد يخنقنا. الحق يقال أننا قد أحيينا بذلك ذكرى أسلافنا الأحباء الأفاضل وحققنا آمالهم وأجمل أمانيهم، محافظين على الأرض التي أروتها دماء شهدائنا والقديسين. لقد توصلنا إلى تحقيق ذلك رغم مصاعب جمّة اعترضتنا وعقبات لا تحصى تجاوزناها وآلام مبرحة احتملناها وحرمان مدقع صبرنا على تبعاته المخزية يوماً بعد يوم، متكلين على عون الرب ومتطلعين بثقة وإيمان إلى الفرج الآتي من عند الله الرحمن الرحيم. فلا شك أن الأيام والسنين الآتية سوف تذكر منشدة وتسطر بماء الذهب ما حققناه في سبيل الحفاظ على أغلى ما يكون على قلب الإنسان، مثوى آبائه الغوالي وموطن أبنائه الأحبة.
نحن لم نيأس وقد استطعنا بعون الله ونعمته الوقوف بعزم وواجهنا تحديات العابسين ونجونا. نحن لم ولن نستسلم بل سنعلن جهاراً مع راعي أبرشية بيروت المطران بولس عبد الساتر الأكرم “سنبقى ولن نرحل سنستمر ولن نتوقف”. نعم نحن سنستمر ولن نتوقف عالمين بأن المسيح معنا وهو كما وعد لن يتركنا يتامى. إيماننا بقدرته الفائقة، يعطينا دفعاً ورجاءً بشروق فجر الغد الأفضل وبانحسار الظلام الذي يلفح أيامنا بسحبه الداكنة والظلم الذي حلّ بنا جراء الضغوطات المؤذية غير المسبوقة التي انتابتنا مؤخراً لترهق كاهلنا وتكدّر صفاء عيشنا.
الحق يقال أن الأوضاع المتردية حاليا عطلت أعمالنا وأفقرتنا، ثم حرمتنا من الكثير الكثير من احتياجاتنا المعيشية وضرورات الحياة. ونحن إذ نسأل الله، عزّ وجلّ، أن يرحمنا فيقصر أيام محنتنا وينقذنا من مخاطر جائحة كورونا وتداعيات الأوضاع السياسية المتردية، ندعو أبناءنا إلى مزيد من الصبر على الضيم والثقة بأن الفرج بات قريباً لاسيما وان السياسات الدولية أخذت تتجه نحو مسارات جديدة من شأنها أن تعطي السلام فرصة وتقدّم لحكومتنا الرشيدة مرتكزات تمكنها من إيجاد حلول ناجعة تعيد إلى المواطنين طيب عيشهم وأمنهم وأمانهم. كما أننا نثق بحكمة رئيس البلاد ودرايته المعهودة، ونركن إلى سخائه في بذل ذاته في سبيل المواطنين ونثمن وفرة عطاءاته للخير العام وسعة قلبه وعطفه المعهود على شعبه الممحون، الذي ينتظر منه اليوم، أكثر من أي يوم مضى، وقفة لافتة شجاعة تعيد إلى شبيبتنا آمالها بالمستقبل الزاهر الذي ينتظرها في موطنها الثري الفسيح سورية، والله الذي هو حاميها يمنح قائدها العزم في نضاله الشريف والتوفيق في مساعيه الحميدة والنجاح في خدمة شعبه الحبيب الذي ينتظر منه الرعاية وكل العناية، ليستمر ويحيا عزيزاً و مكرماً في وطنه الجميل المفدّى.
حلب في 6/2/2021
المطران يوحنا جنبرت