هويّة المسيح
أرى من المناسب أن أعود في هذا المقال إلى الحوار الذي جرى يومذاك بين المسيح والرسل حول هويّته، وهو بنظري أخطر محادثة جرت بين المعلّم الإلهي وأتباعه، إبّان تواجده الزمني معهم على هذه الأرض، وهو حوار يستمرّ مع كلّ واحد منّا، نحن الذين قبلنا دعوته وصمّمنا على اتّباعه في حياتنا. منه تنشأ مرتكزات إيماننا، وعليه ترتكز الكنيسة بصلابتها وتثبت. فالمسيح إذ سأل تلاميذه: “من يقول الناس أني هو ؟” أجابوا: “بعضهم يقولون إنه يوحنا المعمدان، وغيرهم إنّه إيليا، وغيرهم إنه إرميا أو واحدٌ من الأنبياء” وسألهم: “في نظركم أنتم من أنا ؟” أجاب سمعان: “أنت المسيح، ابن الله الحيّ” فأجابه يسوع: “طوبى لك يا سمعان ابن يونا، أنه ليس اللحم والدّم أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السموات، وأنا أقول لك أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوَ عليها (متى16: 13-17). هذا هو المُنطلق والأساس الذي تُبنى عليه الكنيسة: “الإقرار بأنّ يسوع المسيح هو ابن الله الحيّ”.
كل ما تبقّى في إيماننا المسيحي يَستمدّ معناه وسبب وجوده من هذه الحقيقة الأساسية ويتفاعل في حياة المؤمنين منبثقاً من هذا المُنطلق، فهو الصخرة التي يقوم عليها البناء، وحجر الزاوية الذي يضبط سائر عناصره، وهنا أودّ أن أسأل كلّ واحد من المؤمنين: ماذا يقول الناس عن المسيح… من هو ؟ ماذا يقول معلمو الناموس وحكماء هذا العصر عنه ؟ قد يجيب البعض: إنه مُصلحٌ اجتماعيٌ كبير، ومُعلّمٌ كبير في أمور التعايش والحياة الاجتماعية الفُضلى… ونبي… ورسول… ومؤسس ديانة كبرى… والنبي المُنتظر… وأعظم الأنبياء…الخ
وأنتم أتباعه الذين آمنوا به، ماذا تقولون عنه ؟ … هل أنكم تحارون في أمره، أم أنكم مثل بطرس والرسل من بعده، تعترفون بهذه الحقيقة المدوية، فتقولون بوحي الروح الذي فيكم: “إنه المسيح ابن الله الحيّ”. فتكونون، أنتم أيضاً، تلك الصخرة التي يبني عليها المسيح كنيسته، فلا تقوى عليها أبواب الجحيم عينها، أم أنكم تبقون خارج هذا السرّ العظيم، حائرين في ماهية هويّتكم وأمر تبعيّتكم له، لا تعرفون إلى أين المصير، لا قرار لكم في أنفسكم، ولا قناعة تذهب بكم إلى حيث مضى بطرس وبولس والرسل القدّيسون ؟.
هذا السؤال تطرحونه على أنفسكم في مطلع انضوائكم تحت لواء المسيح وتُعيدون طرحه في كلّ مرحلة صعبة من مراحل مسيرتكم في طريقه، وإنّ الإجابة الصحيحة عليه تنير لكم السبيل، وتقوّي عزائمكم، معنوياً وروحياً وحياتياً، فحول هذه الحقيقة التي تُعلنون تتمحور الكتب والأنبياء والحياة الإلهية والخلاص. ويا حبّذا لو طرحتم اليوم السؤال عينه على أنفسكم، واتّخذتم موقفاً يوجّه مسيرتكم في الحياة.
إن لم يكن المسيح هو فعلاً ابن الله الحيّ، وإن لم يكن قد قام من بين الأموات ليحيا فينا إلى الأبد، فنحن أتعس الناس، على حدّ تصريح القدّيس بولس. لكن إن كان المسيح الحيّ هو الداعي وهو الذي يقلب مصير مختاريه كما فعل مع شاول على طريق دمشق، فكلّ شيء يتبدّل، وكل عمل يأخذ معنى، وكل تضحية تجد لها المبرّر، فينطلق المؤمن باندفاع لا يُحدّ، وعزم لا ينثني، ليعمل على بناء الملكوت وخدمة الإخوة. يحتمل الضيق والهوان دون تردّد كما فعل بولس الرسول وغيره الملايين من الرسل والتلاميذ الصالحين.
+المطران يوحنا جنبرت