الكنائس

كنيسة القديس جاورجيوس – حي السليمانية

إعداد : المهندس رشيد رباط

كان المسيحيون حتى أواخر القرن التاسع عشر يقطنون حي الشرعسوس والأحياء المجاورة له ويصلّون في كاتدرائية السيدة وفي كنيسة مارجرجس بالشرعسوس ، وفي مطلع القرن العشرين اتسعت ارجاء المدينة وقامت احياء جديدة هي الحميدية والسليمانية والجابرية والعزيزية، وانتقل اليها مسيحيو الأحياء المجاورة لكنيسة مارجرجس (القبب – تراب الغربا ..).

ثم اتسع نطاق الهجرة إلى الأحياء الجديدة بعد أزمات سنة 1936 إبّان الإنتداب الفرنسي على سوريا (1920-1946) حين أضطرب حُسن الجوار بين المواطنين المسيحيين والمسلمين وخَلت الأحياء الداخلية تقريبا من سكانها المسيحيين وانعزلت كنيسة القديس جاورجيوس بالشرعسوس عن روادها الذين أصبحوا يفضلون ارتياد الكنائس المجاورة لمنازلهم، واقتصرت فيها الإحتفالات الدينية في الستينات من القرن العشرين على بعض القداديس تقام أيام الآحاد والأعياد، ثم تقلصت العبادة فيها إلى قداس واحد فقط أيام الآحاد والأعياد الكبرى ، أما في عيد القديس (22 و23نيسان) فكانت تزحف المدينة بشيبها وشبانها للتبرك من الأيقونة المقدسة واستعادة ذكريات الآباء الذين هجروا ذلك الحي وكانوا يتجشمون بعض المصاعب والإهانات.

ومن ناحية أخرى، وبالرغم من تجمع المسيحيين في منطقة السليمانية حيث بلغ عددهم أكثر من 50000 نسمة فلم يكن لهم كنيسة يصلون فيها فيضطر معظمهم إلى الذهاب إلى كنائس الأحياء الأخرى فيُحْدِثون فيها ازدحاماً كبيراً. لذا قرَّ الرأي على بناء كنيسة جديدة في حي السليمانية ونقل أيقونة القديس جاورجيوس إليها، مع مايمكن أن يُنقل من الكنيسة القديمة في الشرعسوس.

وعندما عُيِنَ المثلث الرحمات المطران ايسيذورس فتال مطرانا على حلب عام 1943 فكّر أول مافكر بنقل كنيسة القديس جاورجيوس إلى الأحياء الحديثة لأنها ماعادت تصلح في الشرعسوس للخدمات الرعائية اليومية والمستمرة بسبب صعوبة الوصول إليها لأكثرية المؤمنين وبعد صعوبات جمة تمكن المطران فتال من اقتناء أرض في جسر المعزة بين محلة السليمانية ومحطة بغداد عانى الكثير من المتاعب لتحريرها من شتى العراقيل التي كانت تكتنفها واستملاكها من مالكيها العديدين واستطاع أخيراً فرز الأرض بمساحة 5400 م2  إلى 5 مقاسم خُصِّص المقسم الأول والأكبر ومساحته 4400 م2 لتشييد الكنيسة وهو مفصول عن الأبنية المجاورة بشوارع عريضة في جهاته الأربع ، واحتفظ بالمقاسم الأربعة المعدة للسكن ومساحتها 1000 م2 لأوقاف الطائفة . ولابد من الإشادة بعاطفة الشكر وعرفان الجميل إلى اريحية السيد جليل بستاني الذي تبرع بأرض الكنيسة ثم بجميع المقاسم الأخرى وقد بلغت قيمتها آنذاك 3000 ليرة ذهبية.

وقام المطران ايسيذورس فتال بوضع الحجر الأساس للكنيسة في يوم الأول من أيار عام 1960 على اسم القديس جاورجيوس ولمجد الله الأعظم وعيّن مباشرة لجنة لإنتقاء تصاميم لها مستوحاة من الطراز البيزنطي الشرقي للكنائس القديمة المنتشرة آثارها في سوريا الشمالية ،وتتوافر فيها المواصفات التالية :

1-كنيسة – مزار، تحت الأرض بمساحة 60×30 متراً تعلو 3 أمتار عن سطح الشوارع المحيطة بالكنيسة، تشتمل على كنيسة كاملة يُنقل إليها كل ما يمكن نقله من الكنيسة القديمة ، وغرفة للمعمودية وصالون ومكتب وصالة كبيرة مع غرف تابعة لها تكون مركزا لنشاطات الرعية والشبيبة .هذه الكنيسة تحوي خصوصاً على أيقونة مارجرجس العجائبية. لذلك فالمزار سوف يُفتح طيلة النهار تقريباً لكي يكون محجّاً لجميع محبي القديس وللسوّاح القادمين من بعيد.

2-فوق الكنيسة –المزار تُشاد كنيسة ضخمة بطول 60 متراً وعرض 35 متراً ويصل ارتفاع القبة الوسطى إلى 42 متراً ،وهي تقوم على  أربعة أعمدة فقط.

وهناك أيضا النرتكس (المدخل الخارجي) والأدراج والأروقة والقبب والجرسية وغرف لإقامة الكهنة ..

3-ساحة أمام مدخل الكنيسة الرئيسي ،إلى الغرب ، مساحتها 2000 م2.

وتوفي المطران ايسيذورس فتال في 4 أيلول 1961 قبل رؤية المخططات النهائية ، وتسلم زمام الأبرشية المطران اثناسيوس توتونجي الذي تابع بهمة هذا المشروع الكبير ، وبعد الدراسات الهندسية الطويلة ،عُهد لمكتب المهندس ويلفور بالي في روما الذي يضم المهندس جولياني والمعماري دي ستيفانو ، بتنظيم المخططات التفصيلية ، وبعد وصولها بوشِرَ العمل الفعلي وتم تقسيمه إلى ثلاث مراحل :

المرحلة الأولى :

الهيكل البيتوني للبناء كاملاً ( الكنيستان العليا والسفلى )حتى القبب الخمس والأدراج الداخلية والخارجية .

بوشرت الحفريات في خريف 1963 ورغم توقف الأعمال مدة سنة كاملة عام 1966 بسبب نضوب الموارد انتهت المرحلة الأولى في تموز من عام 1968 ولابد هنا من ذكر المؤمن الراحل الياس يوسف عازار الذي قدم الكثير من ماله في جميع مراحل إتمام المرحلة الأولى ، وقدم من ذاته وخبرته المعمارية رغم تقدم سنه ،فأشرف يوميا على العمل والعمال، مجانا يراقب ويوجِّه ويُنَبه خشية أي خطأ ، فحُقَّ له أن يُدفن جثمانه في المزار تحت أقدام القربان الأقدس .وكانت أعمال المرحلة الأولى هذه قد وصلت إلى القبب الخمس حين استقال المطران اثناسيوس توتونجي عام 1967 من رعاية الأبرشية على أثر ذبحة قلبية ألمَّت به ربما بسبب التعب بالأسفار إلى الأميركيتين لجمع التبرعات من أخوتنا المغتربين ( وقد رافقه إلى فنزويلا حضرة الأب اغناطيوس ديك ) .

المرحلة الثانية :

تسلَّم المطران ناوفيطوس ادلبي زمام أمور أبرشية حلب في 31 آذار 1968 . وفي غمرة الاحتفالات التي جرت له وخلال موسم عيد القديس جاورجيوس في كنيسة الشرعسوس قطع عهدا أمام الحضور الغفير بانه سيبذل قصارى الجهود لإقامة هذا الموسم ” السنة المقبلة ” في المزار الجديد في حي السليمانية .

وأتبع هذا الوعد بنداء إلى أبناء حلب في الوطن وفي المهجر بتاريخ 1/6/1968 طلب فيه التبرعات من قبل الجميع . وكان يجب تأمين مبلغ 150000 ل.س تقريبا لإكمال الطابق السفلي من الكنيسة بواجهات من الحجر ترتفع أربعة أمتار عن سطح الأرض .فدعا سيادته المجلس المللّي الإستشاري وفي الجلسة الأولى افتتح الاكتتاب بسخاء من ماله الخاص وتمكن في يوم واحد من الحصول على مايقارب نصف المبلغ المطلوب . ثم تابعت لجنة مختصة جمع التبرعات وتمكنت خلال فترة وجيزة من تأمين المال اللازم لإنجاز هذه المرحلة .وتقرر توسيع القسم المخصص للمزار في الطابق السفلي كي يستوعب أكبر عدد من المؤمنين في انتظار إكمال الكنيسة الكبرى العليا.

وتألّفت لجنة هندسية وفنية محلية لأنه لم يكن بين أيديهم سوى مخططات الواجهات الحجرية فقط .أما الأعمال الداخلية والتفصيلات الفنية الكهربائية والتزيينية فلم تكن قد نُظِّمت بعد . تمكنت هذه اللجنة منذ شهر آب 1968 من تلزيم أعمال البناء الحجري والزريقة والمنجور الخشبي والحديدي …الخ .وقد انتهت أعمال المرحلة الثانية خلال شهر آذار من عام 1969 أي بعد8 أشهر من مباشرتها. وحان موعد الإحتفالات المقررة. فأقام المطران ناوفيطوس ادلبي يوم الأربعاء 16 نيسان القداس لآخر مرة في كنيسة الشرعسوس أمام أيقونة القديس بحضور فئة قليلة من الناس .وبعد تقديم الذبيحة الإلهية على نية جميع من خدموا وتعبوا في هذه الكنيسة، أعلن بتأثر إغلاق الكنيسة وتجريدها من صفة العبادة وأشاد بإقبال مئات الألوف من المؤمنين الذين أمّوا هذه الكنيسة طوال 145 سنة تقريبا .ومن ثم حملوا أيقونة القديس في سيارة السيد فتحي جورج انطاكي وقد هبط الليل لئلا يعترض أهل الحي، ونُقِلت مباشرة الى الكنيسة الكاتدرائية.

أما نقل الأيقونة إلى مقرها الجديد فتم برئاسة غبطة البطريرك مكسيموس الخامس حكيم يوم الاثنين 21 نيسان وتم حمل الأيقونة على سيارة مكشوفة والجماهير أمامها ووراءها على ضوء المشاعل ،بموكب رائع وسط التراتيل وزغاريد النساء.ثم أقيمت صلاة التكريس في احتفال شعبي كبير .

تكررت الإحتفالات يوم الثلاثاء 22 نيسان عشية عيد مارجرجس حين استقبل الشعب غبطة البطريرك ولفيف الأساقفة والكهنة  من أمام “تكسي بغداد” حتى الكنيسة. وفي الكنيسة كَرَّم غبطة البطريرك أيقونة القديس وابتدأ مراسيم التدشين وغرس الذخائر المقدسة في مائدة المذبح ومسح المذبح بالميرون ليقدسه وتلا صلاة التكريس . ثم أقيمت صلاة الغروب الإحتفالية وبارك غبطته خبز الاغربينا.

وبعد الصلاة صعد غبطته الى الكنيسة العليا لتفقد الأعمال فألقى هناك السيد جورج نجمة كلمة ترحيبية باسم أهالي الحي، أما جماهير الؤمنين فبقيت حتى منتصف الليل تحج إلى المزار للتبرك والصلاة.

المرحلة الثالثة :

تتابع العمل في الكنيسة العليا، بينما فُتِحت كنيسة المزار للصلاة والعبادة يوميا طيلة فترة قبل الظهر ومن الساعة الرابعة بعد الظهر حتى الليل .وأُكمِلت أعمال المشروع برعاية وإدارة الأب الهمام المرحوم اغناطيوس ديك.

كما فُتِحت الصالة المجاورة للمزار لنشاطات الشبيبة العديدة وتم تعيين الأب يوحنا جاموس لإدارة وإرشاد وتطوير مشاريع الصالة ، من نشاطات إجتماعية وروحية وترفيهية وثقافية ، لكثير من الأخويات،وإقامة الدورات المتنوعة ،والحفلات المختلفة والزواجات والتعازي …

وحين دُشِّنت الكنيسة العليا عام 1979 سَمَح المطران ناوفيطوس ادلبي بإقتطاع حوالي 10 أمتار من كنيسة المزار وضمها إلى الصالة ، فتم بناء مسرح للتمثيل عام 1980 .واربع غرف إضافية لشتى اجتماعات الشبيبة.

وفي عام 2000(سنة اليوبيل الكبير) تمت تحسينات وترميمات عديدة في الصالة من أعمال جبصين وبناء وديكور، ولاتزال الصالة مركزا لإشعاع ثقافي وروحي واجتماعي دائم.

تدشين الكنيسة العليا

تم التدشين في ثلاثة احتفالات ،ففي الإحتفال الأول يوم 21 نيسان 1979 قدّس البطريرك مكسيموس الخامس حكيم المذبح والكنيسة .

وفي الثاني تم تدشين الكنيسة بحضور الهيئات الرسمية الدينية والمدنية وجمهور غفير من الناس وذلك يوم السبت 22 نيسان .

وأقيمت الذبيحة الإلهية الحبرية في اليوم الثالث ، يوم عيد العظيم في الشهداء جاورجيوس صاحب هذا المقام المقدس.

كم سالت من دموع ! وكم تعالت من الزغاريد وكم ارتفع من آيات التسبيح والشكر للعزة الإلهية على هذا الإنجاز العظيم !تبارك اسم الرب !.

بقي أن نذكر أسماء الآباء الذين خدموا رعية وكنيسة مارجرجس عبر السنوات الماضية وهم الآباء :

الأب اغناطيوس ديك ، الأب يوحنا جاموس ، الأب جورج بلدي ، الأب نعمان رويق ، الأب عابد آشجي ،الأب جان كرباج ،ومنذ عام 2011 يشرف على الكنيسة الأب يوحنا جاموس ويساعده الآباء فادي نجار والأب توفيق أبو إسكندر وانتقلت قداديس رعية جبل السيدة اليها ويشرف عليهم الأب عبد الله خبازة والأب ميشيل قندلفت  ، وفي نهاية عام 2017 أصبح الأب عبد الله خبازة هو راعي الكنيسة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى